التربية الروحية للأطفال في شهر رمضان
عد شهر رمضان الكريم من أفضل الشهور في تربية الأطفال روحيا، إذ أن قدسية الشهر لدى المسلمين وما يتضمنه من إحياء لطقوس وعبادات خاصة بهذا الشهر دون الشهور الأخرى يعطيه ميزة متميزة في مجال التربية الروحية والإعداد الروحي الموجه للنشأ الجديد.
فمظاهر التقديس التي تظهر على جميع جوانب حياة المسلمين في البيوت أو الشوارع أو أماكن العمل، تجعل من تلك المظاهر منارا روحيا وتربويا يمكن توظيفه في التربية الموجهة والتي من أهدافها الرئيسية إكساب الأطفال الإتجاهات والميول والعادات السلوكية المرغوبة، التي قد يبذل التربويون جهدا ليس بالقليل من أجل تضمينها في المناهج التربوية الدراسية وأساليب أو طرائق التدريس، وكلما كان المجتمع يعيش في قدسية روحية ونورانية تواكب نهارات وليالي الشهر الفضيل أعطى فرصة مثالية لإكساب الأطفال المظاهر السلوكية والأسس الروحية التي تصب في خدمة هذا الهدف التربوي العام.
إن التربية بمفهومها الواسع لا تشمل التربية الموجهة في المدارس أو المناهج النظامية التي تديرها وزارة التربية والتعليم فقط، بل تشمل المناهج الموجهة خارج إطار الموسسة التربوية الرسمية أو التقليدية، وهذه تحقق الهدف التربوي بشكل أفضل أو يوازي أحيانا الموسسة التربوية الرسمية، وخير شاهد على ذلك تمكن الأقليات الدينية أو المذهبية أو القومية أو الإثنية (خاصة في النظم السياسية الدكتاتورية القائمة على التهميش والتكميم والإقصاء والازدراء بالأقليات المخالفة في الدين أو المذهب أو القومية للأكثرية السكانية كما في معظم بلداننا العربية). من نقل معتقداتهم الدينية أو المذهبية أو اللغة إلى الأجيال الجديدة على الرغم من عدم وجود اهتمام بها في الموسسة التربوية الرسمية، وهذا يعني أن التربويين يمكن لهم تحقيق كثير من الأهداف التربوية الموجهة خارج إطار النظام التربوي الرسمي.
لقد أشار المنظرون في ميدان نظريات التعلم لاسيما نظريات التعلم الإجتماعي إلى أن التقليد والمحاكاة التي تمتاز بها مرحلة الطفولة المبكرة تقوم بالأساس على ملاحظة السلوك، فرؤية الأطفال لمظاهر العبادات الرمضانية المختلفة من صوم أو صلوات خاصة أو ذكر أو دعاء أو ارشاد وتوجيه ديني في المساجد والجوامع والحسينيات، فضلا عن إشاعة عمل الخير والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكل ما يغضب الخالق العظيم بشكل كبير وواسع خلال هذا الشهر، لذا ترى الأطفال يتأثرون بهذه التربية الروحية من خلال مظهرين مهمين في التربية بشكل عام هما: السماع والمشاهدة، فالسماع يثري عملية الإكتساب بشكل غير مباشر، بينما المشاهدة تثري عملية الإكتساب بشكل مباشر، فسماع ومشاهدة قراءة القرآن والأدعية والذكر والصلوات والتسبيح والمظاهر العبادية الأخرى في أماكن العبادة أو البيوت أو الشوارع أو وسائل الإعلام توفر للأطفال فرصة عريضة لاكتساب قيمها التربوية، وبيان آثارها –فيما إذا كان لها أثر تربوي فعال- حتى ولو بعد حين، أي بعد انقضاء شهر رمضان.
إن مدة الشهر الفضيل فرصة تربوية طيبة لتربية الأطفال سيما الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة على قيم وعادات واتجاهات تربوية روحية نابعة من صميم العقيدة الدينية الإسلامية السمحاء أولا، ومتماشية مع متطلبات الحياة العصرية في عالمنا الحاضر الذي يمتاز بالتغيرات والتبدلات والتحولات السريعة والمتنامية في جميع جوانب حياة الإنسان وكمالياتها، وبالتالي فإن الهدف العام من التربية الروحية هو إعداد أجيال مؤمنة بالعقيدة وتفصيلاتها من جهة، ولديها القدرة على التكيف مع الحياة المتغيرة من جهة أخرى، بما فيها القدرة على تقبل الآخرين المختلفين دينيا أو مذهبيا أو قوميا، وهذا ما يتطلب حشد كل الإمكانيات العقلية والنقلية –من القرآن أو السنة أو السير لآل البيت أو الصحابة المنتجبين –التي تؤكد على احترام وتقبل المخالفين أو الآخرين كما هم على الرغم من الإختلاف في الدين أو المذهب أو المعتقد أو الاتجاه، لأننا نعيش في عصر اختلطت فيه القيم الإنسانية بعضها مع البعض الآخر، وحدث تقارب وتلاقح بين الحضارات بشكل لم يسبق له مثيل في أي عصر أو مرحلة تاريخية سابقة، إذ أن وسائل وتكنولوجيا الإتصال الحديثة قد جعلت من العالم المترامي الأطراف، المختلف في الديانات والمذاهب والقوميات والأعراف والأفكار والاتجاهات وجها لوجه في قرية صغيرة، يعلم من في الغرب ما في الشرق، ومن في الشمال ما في الجنوب في زمن لايتجاوز بضع دقائق بالصوت والصورة،
فإذا كانت المتطلبات العقلية والعاطفية والآراء الحديثة في هذا العالم تتجه تنظيراتها وتوجهاتها نحو الحوار بين الحضارات بدلا عن الصراع فيما بينها، وتستهدف نشر وإشاعة أفكار العولمة في جميع جوانب حياة الإنسان فضلا عن إشاعة أفكار التعايش السلمي بين الحضارات المختلفة، كي يضمنوا حياة حرة كريمة للأجيال اللاحقة، فلماذا لا يسعى التربويون في كل مكان من هذه المعمورة إلى إزالة أسباب استمرار الصراع والنزاع والعدائية والكراهية والأحقاد كما هو عليه الحال الآن في العالم؟ وفقا لأسس دينية تربوية علمية تحقق تلك الأهداف، ولماذا إذا لانربي أجيالنا تربية تجعلهم مقبولين من المخالفين أولا، وتعطيهم القدرة على عكس أخلاقيات وقيم الدين الاسلامي السمحاء ثانيا، في عصر انتشرت فيه مفاهيم غريبة عن هذا الدين –مثل مفهوم الارهاب أو التعصب الديني... الخ – عند غير المسلمين، بل وحتى عند المسلمين من مذاهب مختلفة. فضلا عن الحملات المغرضة والمسيئة التي تحاول أن تمس رموز وشخوص الدين، بل والتشكيك في حقيقة العقيدة عن طريق توجيه التهم للدين الذي حباه الله لهذه الأمة؟ ألا يحتاج الأمر منا إلى أن نربي أولادنا تربية روحية تدعو إلى الحوار بين الحضارات المختلفة بدلا عن الصدام معها في معركة ضررها أكثر من منافعها؟ تساؤلات تدعو القائمين على العملية التربوية بمختلف تخصصاتهم ومشاربهم أن يقفوا وقفة جادة ويبحثوا ويبتكروا الوسائل والآليات التي يمكن من خلالها تحقيق الهدف منها طوال أيام السنة الهجرية ومناسباتها ولاسيما خلال ليالي ونهارات شهر رمضان الكريم.