كيف تكون السيرة النبوية زادا للدعاة
كيف تكون السيرة النبوية زادًا للدعاة ؟!
تحتل السيرة النبوية المرتبة الثانية بعد القرآن في زاد الدعاة، زادا شخصيا، وزادا دعويا، حين يعرضون الدعوة للناس، ومن خلال كتب السيرة يلحظ الداعية أن كثيرًا من المؤلفين، عند الحديث أو الكتابة عن حياة النبي صلي الله عليه وسلم وسيرته، يتخذون شكلا معينا ومنهجا محددا، نلحظ أنه متكرر منذ كتاب سيرة ابن هشام الذي جاء اختصارا من كتاب سيرة ابن إسحق، بوصفه من أقدم الكتب التي تحدثت عن السيرة النبوية، وأفردت لها مصنفا، إذ يقدم فيه صاحبه الحديث عن أحوال العرب قبل الإسلام، مشيرا إلى الأحوال الاقتصادية والسياسية والدينية للعرب قبل الإسلام، وحالة السواد التي كان يعيشها العرب، مع خلافي لهذا التحليل من حيث التفاصيل الجزئية، فحياة العرب في الجاهلية لم تكن كلها سوادا، مع ما فيها من معايب ملحوظة، فالأخلاق العربية من الكرم والشجاعة والشهامة وغيرها كان لها نصيب كبير في حياتهم، بل ما كان العرب أصحاب رذيلة أخلاقية كما تصور لنا الكتب .
حين نقرأ قول الشاعر الجاهلي:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي == حتى يواري جارتي مأواها
نلحظ أن غض البصر كان موجودا عند كثير من الناس بجوار ارتكاب الفواحش، وإن كان وأد البنات منتشرا، فهناك من العرب من كان يحارب هذا السلوك القميء، وهذا يعني أن الصورة التي وردت بأقلام كتاب السيرة عن العرب غير صحيحة، إذ أظهروا المساوئ، وأفشوا الرذائل، حتى يوطدوا لدور الإسلام، ناسين أصول كثير من السلوكيات الحميدة عند العرب، والتي يجب أن ننصف فيها العرب حين الحديث عنهم، فليس بيننا وبين الجاهليين خصومة، كما أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم انتشرت في الوسط العربي، ومنه انطلقت، وهم الذين آمنوا به، وجاهدوا معه، ونشروا الإسلام في ربوع الأرض، انطلاقا من محامدهم التي زكاها الإسلام بعد ذلك، وهذا يجب أن يكون واضحا في أذهان الدعاة.
ثم يجيء الحديث عن السيرة المحمدية من المولد وزمن الطفولة والصبا، ثم الشباب والتجارة، ثم الزواج من خديجة- رضي الله عنها- ثم الوحي، ثم الاضطهاد، ثم الهجرة إلى المدينة، ويصور كُتاب السيرة كل حياة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة قتالا للعدو، مغفلين الحياة الاجتماعية للنبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه وتعامله مع الناس بجميع صنوفهم، مع كون القرآن يرشد إلى اتخاذ الرسول أسوة وقدوة، وهذه القدوة هي قمة الدعوة، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوة الدعاة، فحين يعرض الدعاة سيرته على أنها مغازٍ وحروب فحسب، فهذا نوع من الظلم لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت المغازي تمثل جانب القوة لصد الظلم والعدوان، فإن الحياة ليست كلها حروبا، فأصل الحياة أنها مدنية، وما الحرب إلا عارض، وقد وضع الإسلام للجهاد منهجا إنسانيا راقيا للتعامل، يجمع فيه بين صد العدوان، وبين عدم التعدي، والبعد عن الظلم، واحترام الحقوق لمن لا يحارب كالمرأة والشيخ، والحفاظ على البيئة، وغيرها من الجوانب البعيدة عن الجانب القتالي والسياسي، حتى ندعو الناس إلى سُنة كاملة تشمل جميع جوانب الحياة، وليس سنة قتالية فحسب، فعرض الشيء بكافة جوانبه يقدم صورة صادقة لصاحبه، أما العرض الجزئي فلا يقدم إلا صورة جزئية غير كاملة.
ونلحظ هذا المنهج الذي يعرض السيرة بالطريقة التقليدية في كتابات كثير من الأقدمين والمحدثين، فمن الأقدمين ابن هشام في سيرته، وابن كثير في كتابه «البداية والنهاية»، وابن جرير الطبري في تاريخه، وفي السيرة الحلبية، ومن المعاصرين المباركفوري في كتابه «الرحيق المختوم»، والشيخ محمد الخضري، حتى الشيخ الغزالي- رحمه الله- مع كونه قدم منهجا مميزا في السيرة النبوية، وبدا أنه منهج تحليلي، وليس منهجا وصفيا كغالب مَن كتب في السيرة النبوية، غير أنه حافظ على المنهج التقليدي في عرض الأبواب من الميلاد حتى الوفاة.
غير أن هذا لم يمنع أن تكون هناك كتابات مبكرة تجمع بين السيرة المأخوذة من السير والمغازي والأحداث العظام، وبين بيان الحياة الاجتماعية للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم مَن كتب بهذا المنهج الشامل الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي المتوفى سنة 942هـ، في موسوعته الرائعة «سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد»، وقبله الإمام ابن القيم في كتابه القيم «زاد المعاد في هدي خير العباد» وغيرهما من الكتب.
وهذان الكتابان يجد فيهما المرء تفاصيل دقيقة عن حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، ففيهما وصف دقيق للحياة الشخصية للرسول، والحياة الاجتماعية، والحياة السياسية، والمنهج الاقتصادي، والعبادات والسلوكيات والأخلاق، وما أحسن ما كتبه العقاد عن حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، وإن كان كتابه جاء في حجم صغير، غير أنه وضع منهجا متميزا وعرضا جديدا لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، قائدا وزوجا وأبا وصديقا وسياسيا وإداريا، لينهل الناس جميعا من سيرته مع اختلاف طبائعهم ووظائفهم.
ومن المهم أن يدرك الداعية ذلك حين يختار الكتب التي يقدم من خلالها السيرة النبوية للغير، أو تكون زادا له حين يقرأ في كتابات السيرة النبوية.
وأحسب أن الدعاة حين يقدمون السيرة النبوية لا بد أن يقدموها في صورة تصلح لزماننا، مع الاستفادة مما كتب قديما مع اختلاف المناهج، ولا بأس بالقيام بعمل موسوعي، يكتب فيه أهل كل تخصص مع إشراف أساتذة التاريخ والسيرة والشريعة، فيكتب علماء الاجتماع الجانب الاجتماعي في حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويكتب علماء النفس كيف كان يتعامل الرسول مع النفس البشرية، رجلا أو امرأة، طفلا أو شيخا، صديقا أو عدوا، وكيف كان ينظر لمداخل الناس، ويكتب علماء السياسة الجانب السياسي في حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومنهجه في الحرب، والقواعد التي وضعها للتعامل في الحالات الطارئة، والتزامه منظومة الأخلاق، في وقت ينسى كثير من أصحاب الأفكار أخلاقهم، وكيفية تعامله مع المخالف في الفكر أو النظام.
وفي الجانب الدعوي يكتب أهل الدعوة منهج الرسول في الدعوة، وتأثيره في الناس، وخطابهم له، وفي الجانب الفقهي والفتوى يكتب أهل الفقه كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفتي الناس في دينهم، وما هو منهجه في الفتوى، وفي جانب السلوكيات يخرج لنا العلماء جوانب السلوك والتعامل مع الآخرين، وقواعد الذوق العام، وغيرها من مناحي الحياة، ليبقى الرسول صلى الله عليه وسلم، قدوة لنا في حياتنا، لنحقق قول ربنا {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} [الأحزاب: 21]، من خلال موسوعة متكاملة عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشخصيته.
وإن كانت الأمم تسعى للتعريف بعظمائها، بوصفهم الثروة الحقيقية للحضارة، فإن أمة الإسلام مازالت في حاجة إلى أن تكشف عن شخصية الرسول، صلى الله عليه وسلم، في جوانب مازالت تحتاج إلى كثير بحث، معتمدة في ذلك على كتاب الله سبحانه وتعالى كمصدر من مصادر معرفة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقرآن قد حوى عددا من المواقف الخاصة بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس فيما نعلم دراسة وافية درست شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، من خلال آيات القرآن الكريم الذي أوضح كثيرا من حياة الرسول الخاصة كخلافه بين أزواجه وكيفية حل هذا الخلاف، وعتاب الله تعالى له لموقفه، صلى الله عليه وسلم، من ابن أم مكتوم، وقضية التبني، وتحرجه من أصحابه ممن يمكثون عنده كثيرا، وغيرها من المواقف التي لا نجد في كتب الأنبياء ما نجده بوضوح في القرآن عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعتمد على كتب السنة، وخاصة بعد هذا الجهد الكبير الذي بذله المحدثون في تحقيق الأحاديث والآثار والحكم عليها من حيث الصحة أو الضعف أو الوضع، وكذلك كتب التاريخ والسير، والتي حوت هي الأخرى أطرافا من حياته، صلى الله عليه وسلم، فحين تتضافر جهود علماء الشريعة باستخراج الآيات والمرويات الخاصة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون لهذه المرويات قراءات متنوعة من علماء المسلمين في تخصصاتهم المختلفة تجلية لسيرة الرسول الأعظم، واستخراجا لما يفيد البشرية جميعا من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم آمنوا به أم لم يؤمنوا، تحقيقا لقوله تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107).
وأحسب أن هذه خطوة مهمة قبل أن ندعو الناس للتأسي به، صلى الله عليه وسلم، إذ لابد من وضوح ما ندعوهم إليه قبل أن نقدمه للناس، فالرسول، أعظم شخصية عرفها التاريخ، يجد فيها كل إنسان ما يحب أن يكون له فيه قدوة.