قليل من الإيمان
قليل من الإيمان
تتغير ملامح الأيام مع قدوم شهر رمضان.. فى صباح اليوم الأول للشهر تغلف المدينة بسمات جديدة ويبدأ البشر فى رحلة طويلة ربما يقل فيها الإيمان وتكثر فيها مظاهره فقط..
وفى كل عام يزداد الشهر صخبا واستهلاكا.. شىء ما فى الفعل يناقض القول والكلام.. تخرج فى مخاطرة شديدة إلى الشارع صباحا تبحث عن طريقك الذى سلكته طوال الأشهر الأخرى من العام إلى مكان عملك فتجد صعوبة شديدة فى المناورة فى غابة من العربات الشيطانية أو ربما الشياطين هم من يقودونها.. تصطدم فى طريقك بتضاريس لم تكن هناك.. فجأة تتغير ملامح المدينة وليس الأيام فقط.. تستمر فى المحاولة مع كثير من الصبر وأخلاقيات يرددها الدعاة على كل الأجهزة التى تحاصر حواسك.. شىء ما يحول الشوارع المجنونة أصلا إلى مرحلة ما بعد ذلك من العبث وكأنهم يصرخون «المجنون اتجنن» !!! تتحلى بالصبر والشجاعة والمثابرة وربما الإيمان.. هى فى مجموعها أسلحة الخارج إلى الشوارع الشيطانية نهارا أو ليلا.. الشوارع الغابات لا تختلف فقط فى كمية الفوضى التى لا يزيدها سوى البحث عن رجل مرور نادر!!! بل هى أيضا متحولة فى طبيعة أخلاقيات البشر.. هذا يصرخ فيك وآخر يكيل الشتائم وثالث يردد «اللهم إنى صائم» ثم يلحقها بكلمة بذيئة تساهم فى انتشار التلوث اللغوى.. كيف يتلاقى الصيام بفعل السب والشتم وانتهاك حرمة السائق الآخر وحقه؟ سؤال تعيد تكراره يوميا خلال الشهر لأن فى فهم معنى الصيام ذاته خلل ما لدى الكثيرين.
تختلط النهارات بالليالى ويصبح لليوم امتداد السنين وكثافة الدهر!! تزدحم الساعات واللحظات بالضجيج، شىء ما يشبه ما يمكن أن يكون شهرا للصوم والعبادة.. بعضهم يعرف الصوم بالامتناع عن الأكل والشرب فقط وفى هذا تضييق للمفهوم وتقصير فى الفهم!! فحين يعرف الصوم بالمفهوم الضيق له يتحول الشهر حتما إلى ما هو عكس ما كان عليه.. فيكثر الكلام «غير المباح» وتشتد حدة الاستهلاك المقيت والقاتل لكل أشكال العبادة والتعبد.. وترتفع حدة التسول فى شهر يراد منه أن يعيد للنفس البشرية كرامتها وليس فى ابتذالها على الأرصفة بشكلها الفج. لا ضير من استغلال الاطفال والعجزة وكبار السن وغيرهم من الفئات الضعيفة التى لا حيلة لها أصلا.. ثم يزداد التسول حدة وتنوعا وربما تعقيدا عندما يغلف بتقنيات الإعلان المتطورة وبألوان الطيف، حتى يعلب التسول فى شكل صدقة أو زكاة !!! تصطف الإعلانات بين مساحات هى أصلا مكتظة بالمسلسلات، التى هى الأخرى جزء من ملامح الشهر الكريم، كثير منها يغريك لاستهلاك أكثر من السمنة والسكر والحلويات والجبنة ولا ننسى استهلاك المحادثة على الهواتف لساعات وكأن رمضان مرتبط بالحديث المطول على الهواتف أو ربما وفى أحسن الظنون أنه الشهر الذى يتواصل فيه البشر مع أسرهم وأصدقائهم ثم يعودون بعد أن ينتهى إلى الانقطاع حتى أن يعود ويهل هلاله!
تحاول أن تفهم ما الذى حدث لذاك الشهر نفسه.. كيف حولوه إلى عكس ما يجب أن يكون عليه.. تعمل على فك بعض تلك الأسرار أو تسأل لماذا تحول ذلك الشهر الجميل شديد الترابط والرقة والإيمان والخشوع والتأمل.. كان شهرا للتأمل حيث يخلو المرء لنفسه يراجع ما كان منه وما حدث حوله.. يعيد وضع الأحداث فى تراص دقيق ويضعها على ميزان واحد برمانة دقيقة المقياس للأخلاق والقيم.. كأن النهار للعمل وإتقانه أكثر والليل للعبادة والتسامر والتواصل دون نفاق وصراخ!! والأطفال يجتمعون تحت المصابيح فى الشوارع النظيفة يلعبون لعبا جماعيا يعزز التلاحم أكثر ويتعلم منه الأطفال الكثير من المحبة والترابط وربما أيضا احترام حق الآخر... كان شهرا للمصارحة مع النفس أولا وليس للنفاق والعبث المغلف بكثير من عبارات الدين.. كان شهرا كثر به الإيمان أما اليوم فقد تحول إلى كرنفال آخر تقوده شركات الإعلانات ويتسابق فيه الإعلام على سرقة اللحظة بعيدا عن سجادة العبادة وساعات الاختلاء بالنفس.