تفسير قوله تعالى وأمرهم شورى بينهم
يعتبر لفظ الشورى من الألفاظ الجليلة التي تتردد على ألسنة أهل اللغة وعلى ألسنة المفسرين والمحدثين والفقهاء، وكذلك على ألسنة الأدباء والشعراء والمفكرين والمثقفين والساسة، وهو منهج تفيض به آيات ربنا، وتترجمه عمليا سنة نبينا وهدي سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
الشورى سمة من سمات المجتمع المسلم وخصيصة من خصائصه التي نشأ عليها وترعرع فيها وغدت موجها له في حركته في خاصة أمر المسلم وعامة .
وهي في اللغة مأخوذة من "شار العسل" إذا استخرجه واستخلصه.
وهي في الاصطلاح: التحاور وتداول الآراء وتقليب وجوه الأمر للخروج بسديد الرأي وحكيم القرار، وصالح الفعل الذي يؤدي إلى المصلحة في الأمر المتشاور فيه.
وقد ورد لفظ الشورى صريحا في ثلاث آيات محكمات من كتاب الله:
في سورة البقرة: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}
وفي سورة آل عمران: {عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر}
وفي سورة الشورى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}
وسورة الشورى سورة مكية كان نزولها قبل التشريعات وتفصيل الحلال والحرام، وورودها هنا يدل على أن الشورى منهج في حياة المسلم يتغذى بها ويعيش عليها في جميع أطوار حياته.
وآية البقرة تتحدث عن الرضاع ووقت فطام الصغير، وتشاور الأب مع الأم في إتمام رضاع الصغير حولين كاملين أو فصاله قبل ذلك لأمر عن أو لمصلحة ارتأياها.. وهي مسألة أسرية داخلية خاص جدا.. تدل على أن مفهوم الشورى أوسع مدى، وأشمل رحابة، وأعظم وأوسع من مجرد اشتمالها على المعنى السياسي وإطار الحكم كما يظن كثير من الناس. وإنما هي نمط ومنهج شامل في حياة المسلم يطبق في الأسرة وفي المجتمع وفي جميع القضايا الخاصة والعامة.
فإذا كانت قضايا المجتمع لا ينبغي أن يستبد فيها إنسان برأي حاكمأ كان أو صاحب منصب ونفوذ، فكذلك في الأسرة لا يستبد أحد برأي ولو كان الأب. وإنما يتشاور الجميع الآباء والأبناء والأمهات والبنات حتى يتعلموا جميعا هذا المنهج ويتربوا عليه. فما خاب من استشار ولا ندم من استخار.
وأما آية آل عمران فأعجب الآيات الثلاث:
وذلك أنها جاءت بعد هزيمة أحد وانكسار المؤمنين فيها وذلك بعد مخالفتهم لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم وأمره.. فقد فقد شاورهم في الخروج للقاء المشركين والبقاء لمقاتلتهم في المدينة وكان يحب وكبار الصحابة أن يبقوا فإذا جاء العدو قاتلوه في طرق المدينة وأزقتها ومن فوق الأسطح وهم أدرى بالمدينة، واختار الشباب ومن لم يحضر بدرا الخروج فنزل على رأيهم، وكان ما كان من أمور عظيمة أصابته هو في نفسه وقتل أصحابه وانهزم الجيش.. فحتى لا يحمل أحد ذلك كعاقبة للشورى أو أن يقال لهم أرأيتم عاقبة رأيكم ونتيجة الاستجابة لكم.. نزل قوله تعالى يحثه على الاستمرار على مبدأ التشاور وأنه بركة كله حتى وإن كان ما كان فقال سبحانه: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} فيحضه على الشورى والمداومة عليها مهما كانت النتائج ليستقيم عليها المسلمون فكما قيل: الخطأ مع الشورى خير من الإصابة بدونها:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به .. رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
واستجابة لهذا التوجية الإلهي جسد النبي صلى الله عليه وسلم الشورى بأفخر وارقى ما يكون معنى التجسيد، وحولها إلى واقع عملي تشهد عليه كل حياته وجميع أموره، فكان ديدنه وعادته وهجيراه مشاورة أصحابه فيما لم ينزل به الوحي من الله، فليس بعد أمر الله وحكمه مشاورة، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا}(الأحزاب:36) فلا مشاورة في تحليل الربا أو قطع السارق أو رجم المحصن الزاني، ولا في تحليل حرام أو تحرم حلال، وما دون ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه وكان كثيرا ما ينزل على أرائهم ويترك رأيه لرأيهم.
استشار أصحابه في غزاة بدر، عندما أفلتت القافلة وتعينت المعركة فقال: أشيروا علي أيها الناس.. ليعلم موقف الأنصار من نصرته خارج المدينة، فكان من بركة المشاورة أن قام قائمهم فقال: لقد آمنا بك وصدقناك، وأعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فامض يارسول الله لما أمرك الله والله لا نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك".
فكانت هذه أول بركات الشورى وأول علامات انصر.. فقال أبشروا وأملوا.
ولما نزلوا قال الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلكه الله فلا رأي لأحد فيه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال الحباب فإن هذا ليس بمنزل.. ثم عرض وجهة نظره فاستحسنها النبي صلى الله عليه وسلم ونزل حيث أشار الحباب.
استشارهم في أسرى بدر، واستشارهم في غزوة الخندق فقال سلمان فارس: إنا كنا إذا أتانا العدو خندقنا (أي حفرنا خندقا حولنا فلا يصل إلينا العدو) فأخذ النبي برأيه وحفروا الخندق؛ فكان بفضل الله سببا من أسباب النصر ورد كيد الأعداء.
وما زال يستشيرهم في كل شأن وأمر حتى استشارهم في أخص أمر نزل به وبالمجتمع المسلم، وهو حادثة الإفك لما تكلم الأفاكون الكذابون والمنافقون ورموا أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها بالبهتان.. فاستشار عليا وأسامة وبريرة مولاته: فقالت خيرا ونزهت سيدتها ـ وهي أهل لكل طهر وعفاف ـ إلى أن رفع الله الغمة وبرأها من فوق السموات السبع، وكبت المنافقين والكافرين.
لقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه أغنى الناس عن المشاورة ـ لو استغنى عنها أحد ـ فهو المسدد بالوحي المعصوم، وهو أسد الناس رأيا، وأحكمهم عقلا، وأطهرهم قلبا، وأزكاهم نفسا، ولكنه كان يشاور ليؤصل للأمة أن هذا هو النهج الذي تستقيم به الأمة في حياتها.. ليس لأحد أن يستبد برأي كائنا من كان، ولا أن يستبد بفكر مهما أوتي من سعة العلم وأسباب القوة وعلو المنصب؛ لأن الاستبداد ماحق للقوة، ماحق للدين، ماحق للوحدة، ماحق للخلق.. كما قال الكواكبي في كتابه طبائع الاسبتداد.
أبو بكر والشورى
رحل النبي إلى الرفيق الأعلى ولم يخلف حاكما على المسلمين، وترك الأمر للأمة يتشاورون فيه على أصلحهم، فتشاوروا رضوان الله عليهم فكان من بركة شوراهم أن وفقهم الله لأعظمهم وأفضلهم وأحبهم إلى الله ورسوله سيدنا وسيدهم وسيد المسلمين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
سار أبو بكر على النهج النبوي حذو القذة بالقذة، فكان يشاور كما كان رسوله صلوات الله عليه وسلامه يفعل.. فشاورهم في جيش أسامة، وشاورهم في حرب المرتدين، وشاورهم في قتال مانعي الزكاة، وفي جمع المصحف الشريف، وفي إرسال الجيوش واختيار القادة.. كل ذلك بحكمة وعلم، كلما أشكل عليهم شيء بينه لهم، وإذا التبس عليهم حكم وضحه لهم بسعة علمه ودقة فهمه؛ حتى عرفوا له فضله، وحمدوا سيرته.
عمر المحدث الملهم
وجاء عمر بترشيح من الصديق، وقبلت الأمة اختيار أبي بكر وبايعوا عمر فكان على جادة سابقيه، لم يبدل ولم يغير، بل سار على النهج وسلك نفس السبيل.
ما قال لهم: أنا المحدث الملهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كان فيمن قبلكم محدثون فإن كان في أمتي منهم أحد فعمر". ولا قال لهم: أنا خليفة راشد، أمركم رسول الله باتباعي بقوله: [عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ]، ولا قال لهم: الرأي رأيي وقد أمرتم بالاقتداء بي بأمر رسول الله: [اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر].. ولكنه كان ـ وهو المحدث الملهم، والخليف الراشد، والذي وافقه القرآن في مواضع ـ لا يستبد برأي، بل كان يشاور أصحاب العقول وكبارالصحابة ووجوه المهاجرين وسادة الأنصار ويدخل بينهم الشباب يطلب حده عقلهم وتوقعد أذهانهم. بل كان كما قال ابن سيرين: كان عمر ربما يستشير المرأة فإذا استحسن منها رأيا عمل به.
ومواقفة في الشورى لا تعد ولا تحصى في خاصة أمر الناس وعامته، بل بلغ أنه كان يشاور في أمر امرأة وضعت بعد ستة أشهر، ويشاور حفصة أم المؤمنين في المدة التي تتحمل فيها المرأة غياب زوجها عنها، ويصدر مرسوما الا يغيب الناس في الغز أكثر من هذه المدة.
ومن مشهور مشوراته أنه لما أراد أن يدخل الشام سمع أن بها الطاعون، فطلب مشورة الناس، فاستشار أولا المهاجرين، ثم استشار الأنصار، ثم وجوه الناس.. وبعد المشاورة رأى أن يرجع ولا يدخل... وجاء ابن عوف يقول له: تفر من قدر الله؟ فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله.. ثم كان من بركة المشاورة أن جاء رجل من الصحابة ليسدد اختيار عمر فيقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها) رواه الشيخان.
ولا زال عمر يشاور الناس ويؤصل لمبدأ الشورى حتى لقب بعميد الشورى كما قال حافظ:
يا رافعــا راية الشورى وحارســها .. جزاك ربك خيرا عن محبيها
درى عميد بني الشورى بموضعها .. فعاش ما عاش يبنيها ويعليها
وما اســـتبد بــرأي في حكــومــتـه .. إن الحــكومة تغري مستبديها
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به .. رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
إن الشورى باب رحمة وبركة، ووسيلة لنشر الألفة والمحبة، وطريق لكشف أصحاب العقول الرشيدة والأفكار السديدة، ووسيلة لفتح الباب للاستفادة من كل العناصر المتميزة في المجتمع. وهي سبب للأمن والاستقرار والرخاء والعدالة والمساواة، وهي من أكبر أسباب منع الظلم والتسلط والاستبداد. وما وجدت الشورى في دولة ومؤسساتها إلى حل فيها العمران، وملأت أركانها السعادة، وبسط في أركانها الأمن. ولا وجدت بين أناس إلا هدوا إلى أفضل شأنهم وأوفق أمرهم.
فالله الله في الشورى، الزموها ولا تضيعوها، وأحيوها ولا تميتوها، ورسخوها ولا تفرطوا فيها، واستعملوها في كل شأنكم وجميع أموركم.