يسبب ضعف في الإيمان وتدمير للمجتمع
النفاق الاجتماعي يسبب ضعف في الإيمان وتدمير للمجتمع
تتغلغل بين الناس في مجتمعنا العربي ظاهرة عجيبة تندرج تحتها الكثير من الأفعال، وهي أسوأ ما يمكن أن يوصف بها الإنسان، وربما تتسبب هذه الظاهرة في انهيار المجتمعات وإصابتها بالشلل والخلل، وتغزو ظاهرة ومرض "النفاق الاجتماعي" العديد من المجتمعات العربية،
وتدب كالسرطان في جسد الناس على عدة أشكال، كالتصنع والتلون والكذب والخداع في العلاقات بهدف الظهور الآخرين من أجل المصالح الشخصية، فما هو النفاق الاجتماعي؟ وما الذي يميزه عن المجاملة؟ وما حكمه شرعاً؟ وكيف يمكن علاجه واجتنابه، وما واجب الأمة تجاه ذلك؟
مرض اجتماعي
في هذا الإطار، قال الدكتور "عبد الباري خلة" -أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بكلية الدعوة الإسلامية-: "إن النفاق الاجتماعي يتعلق بسلوك اجتماعي وعلاقات فردية، وأمراض اجتماعية تؤثر بقوة المجتمع وتماسك أفراده"، موضحاً أن النفاق الديني هو قول باللسان أو الفعل بخلاف ما في القلب أو ستر الكفار وإظهار الإيمان.
وأكد الدكتور "خلة" في حديث خاص مع بصائر: "أن النفاق عموماً مذموم –لافتاً إلى- تحذير النبي صلى الله وعليه وسلم من ذلك بقوله: (تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ) (رواه البخاري)".
د. عبد الباري خلة: النفاق الاجتماعي يكون عند بعض الأشخاص في السكوت عن الخطأ بحجة المصلحة، أو خوفاً من فقد ثقة المُجَامل
وأشار إلى: "أن ذا الوجهين يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها -موضحاً- أن بعضهم يفعل ذلك لمصلحة دنيوية أو مصلحة اجتماعية –مستدلاً- بقول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي الدُّنْيَا كان لَهُ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ) (رواه البخاري في الأدب المفرد بسند حسن)".
ويلعب النفاق دوراً بارزاً في تقويض الدولة الإسلامية ، حيث يدبّ في جسد الأمة كما يدب السرطان في جسد الناس، حيث يجعلها جثة هامدة عن طريق إحداث الفتنة والاضطرابات والفرقة، والعمالة مع أعداء الإسلام في هدم الإسلام والمسلمين.
وأوضح الدكتور "خلة" أن الناس أصناف متعددة، منهم الصريح ومنهم المداهن: "فإذا داهنت أو جاملت الفاسق توهّم السامع بعكس ما هو فيه، واقترفت خطأ، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإسلام، إِذَا فَقهُوا وَتَجِدونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأتِي هؤُلاَءِ بَوَجْهٍ وَهؤُلاَءِ بِوَجْهٍ) (رواه البخاري).
ولفت إلى: "أن النفاق الاجتماعي يكون عند بعض الأشخاص في السكوت عن الخطأ بحجة المصلحة، أو خوفاً من فقد ثقة المُجَامل، يقول الحسن البصري: "تولى الحجاج العراق وهو عاقل كيّس، فما زال الناس يمدحونه حتى صار أحمقاً طائشاً سفيهاً". وعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إلى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً) (رواه مسلم)".
ويتجلى مرض النفاق في مجتمعنا في العمل، وحتى في وسائل التواصل الاجتماعي، ولا ينبغي أن يكون هذا النفاق على حساب الدين، فلا نبيح محرماً ولا نفتي إرضاء للمسؤول، ولا نغير حكم الله، وفقاً للدكتور "خلة".
وأشار إلى: "أن النفاق الاجتماعي من علامات الساعة –مستدلاً- بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع) -يعني العبيد والسفلة من الناس- (رواه الترمذي بسند صحيح)".
وأوضح "خلة" الفرق بين النفاق والمداراة، مشيراً إلى أن المداراة مشروعة في الدين، فهي تلطف مع الخصم ولين، ودفع له برفق ورحمة، وهي فن يتقنه الحكماء العقلاء.
وقال: "الإنسان مدني بطبعه، لا يستغني عن الناس، خلق في وسط المجتمع، فلا بد أن يعامل الجميع، وهذا يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى معرفة أطباعهم".
وأضاف: "المداراة مشروعة؛ لأنها مجاملة دنيوية ليست دينية، وهناك فرق بين من يتلطف مع الناس وبين من يقرّهم على خطئهم ومعصيتهم ".
وتابع بالقول: "المداراة خفض الجناح للناس والرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإِغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألف، وهي من أخلاق المؤمنين ومندوب إليها".
واستشهد بالقرآن والسنة، فمن القرآن قول الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى} [طه،آية: (43/44)] حيث أمر الله موسى وهارون عليهما السلام أن يدعوا فرعون الطاغية، ومع ذلك يلينا له في الخطاب، وهذا من باب الدبلوماسية وفن الخطاب والتعامل، وهذا باب من أبواب المداراة.
واستدل بقول الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود،آية:84].
وأشار إلى: "أن العديد من النماذج في السنة تدل على المدارة ومشروعيتها، فعن السَّائِبِ قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ وَيَذْكُرُونِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا أَعْلَمُكُمْ) -يَعْنِي بِهِ-، قُلْتُ: صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ، لاَ تُدَارِي وَلاَ تُمَارِي" (رواه أبو داود بسند صحيح).
وأكد أن المداراة درء للشر ودفع له بالقول اللين، وترك الغلظة على مرتكب الشر لمصلحة دينية، أو الإعراض عنه إذا خيف شره، أو حصل منه من المنكر أكبر مما هو واقع فيه.
ومن الأمثلة على المداراة والمجاملة وفق "خلة": إعجابك بطعام زوجتك -وإن لم يكن لذيذاً- فهي مجاملة محمودة.
نتائج كارثية
من جهته قال الدكتور "ماهر السوسي": "أن النفاق الاجتماعي مذموم، ويدل على ضعف إيمان بعض الناس وقلة خوفهم من الله تعالى، عازياً انتشاره لضعف الثقة بالنفس عند بعض الناس، والطمع المادي، والشعور بالنقص، إلى جانب دور بعض وسائل الإعلام التي تغذي هذا المرض".
د. ماهر السوسي: النفاق مذموم، ويدل على ضعف إيمان بعض الناس، وقلة خوفهم من الله تعالى.
ولفت "السوسي" في حديث لـ"بصائر" إلى: "حثّ النبي صلى الله وعليه وسلم للإخلاص والصدق في القول والعمل، والنهي عن الكذب والغش والتدليس والنفاق الاجتماعي –مستدلاً- بقوله عليه السلام: (عليكم بالصدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا، وإياكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، ومازال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا) (رواه مسلم)".
وأشار إلى النتائج السلبية للنفاق الاجتماعي، وهي تغيير السلوك والشعور بالنقص، وقلة الثقة والظلم، وحرمان الآخرين من حقوقهم، والابتعاد عن قيم العدول والمساواة.
وأوضح أن النفاق يؤدي للعنصرية، ويؤدي إلى الطبقية، والتركيز على الكماليات، دون الاهتمام بالأساسيات ، مما يؤثر على النواحي الاقتصادية والنفسية، والتأثير على المجتمع بشكل عام.
العلاج
وأشار إلى أنه يمكن معالجة ظاهرة النفاق من خلال نشر الثقافة والعلم في أوساط الشباب، والتركيز على الإنجازات البشرية، وترك المظاهر الخداعة.
ولفت إلى أهمية التركيز على المضمون، وعدم الاعتناء بالشكليات، والرجوع للقيم والمبادئ الدينية التي تحرم النفاق، وتحري الصدق والصفات الحسنة، والأخلاق الحميدة والحياء، مستدلاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بالخير) (رواه الشيخان).
ودعا السوسي الأمة الإسلامية لتعرية المنافقين ومن يبالغون في مدح الناس والسلاطين بالباطل -لتحقيق بعض مصالحهم الشخصية- لإذلال الناس واستعبادهم للملوك والرؤساء، مشيراً إلى أهمية تحذير الأجيال من المنافقين، وتنشئتهم بشكل سليم، بعيداً عن التملق والخداع