نعمة الحياة

خلق الله عز وجل لنا الحياة منة منه لنا‏,‏ فجملها وزينها‏,‏ استضافنا فيها فأكرمنا وأحيانا ورزقنا وهدانا‏,‏ والحياة بهذه الصفة هي هبة ربانية ومنحة صمدانية‏,‏ أرشدنا الله – سبحانه وتعالى- كيف نتعامل معها‏..‏ وكيف نتمتع بها‏,‏ أرشدنا – سبحانه وتعالى- لما فيه صلاح دنيانا‏..‏ كيف نضعها وما أولوياتها‏..‏ أمرنا الله ونهانا وبين لنا وثبتنا في كتابه وفي سنة سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- فجعلنا لا ننسى نصيبنا منها‏,‏ وأمرنا بالتأمل والتفكر فيها‏, ‏وجعل ذلك من سمات عباد الرحمن الذين يذكرون الله كثيرا‏.

‏ ربنا – سبحانه وتعالى- يضع دستور ذلك كله فيقول‏: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} [القصص‏:77].

‏ فالمسلم هو الذي يحب الحياة حبا حقيقيا‏,‏ يعرف قيمتها ويعرف منة ربه عليه بها‏,‏ ولا يتجاوز شأنها‏,‏ ولا يضعها في قمة اهتمامه فتحجبه عن الله‏,‏ المسلم هو الذي يدرك معنى الحياة‏..‏ وليس الذي يتعلق قلبه بالدنيا‏,‏ فحب الدنيا من الوهن‏..‏ وحب الحياة ينزع الوهن من القلب‏,‏ قالوا‏:‏ وما الوهن؟ قال – صلى الله عليه وآله وسلم-‏:‏ (حب الدنيا وكراهية الموت) ‏(سنن أبي داود‏),‏ فالمسلم يحب الحياة لكن لا يلهيه هذا الحب عن حب الحياة الآخرة فهي الحيوان‏,‏ وهي الحقيقة‏,‏ وفيها الخلود‏,‏ ونرجو فيها رضا الله –سبحانه وتعالى-حتى يدخلنا جنته وحتى يقينا عذابه وغضبه‏.

‏ المسلم هو الذي يحب الحياة وليس المفسد هو الذي يحب الحياة‏,‏ فالمفسد هو الذي يحب الشهوات {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ} [آل عمران‏:14],‏ ربنا - سبحانه وتعالى- يأمرنا بالنية الصالحة في كل ما نفعل‏,‏ سواء كان الذي نفعل راجعا إلينا أو راجعا إلى أهلنا‏,‏ أو راجعا إلى غيرنا‏,‏ أو راجعا إلى أقاربنا وجيراننا‏..‏ كل ذلك {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [غافر‏:14].

قال - عليه الصلاة والسلام-‏:‏ ( إنما الأعمال بالنيات‏,‏ وإنما لكل امرئ ما نوى) ‏(صحيح البخاري ومسلم‏),‏ وقال‏:‏ ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في - يعني‏:‏ فم – امرأتك ‏(صحيح البخاري ومسلم‏),‏ وأخبر أن الإنسان يثاب حتى في شهوته التي يضعها في حلاله‏,‏ فقال‏:‏ ( وفي بضع أحدكم صدقة‏ ),‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله‏,‏ أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال‏:‏ ( أرأيتم - يعني أخبروني - لو وضعهافي حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) ‏(صحيح مسلم‏).‏

خلق الله الخلق وأمرنا أن نتمتع به في حله ولذلك يقول – سبحانه وتعالى-‏: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف‏:31],‏ أمر ونهى‏, {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف‏:31‏ ـ‏32],‏ يعلمون الحق ولا يلبسونه بالباطل‏,‏ ولا يدجلون على الناس بأن المسلم يكره الحياة‏,‏ لأن المسلم في أصل عقيدته يرى الحياة منة من الله‏,‏ فهو يحب الحياة لحب الله‏,‏ لكنه لا يحب الفساد لأنه جل جلاله لا يحب المفسدين ‏{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف‏:31]..‏ المسلم يحب الحياة لأنه لا يجد حجابا بينه وبين ربه‏,‏ ولا ينسى نصيبه من الدنيا فيتمتع بها وبطيباتها وبحلها كما أمره الله‏,‏ ولا يعدو فوق ذلك‏,‏ ويجعل كل تصرفه لله‏,‏ وقلبه معلق في حالة دائمة بالله‏,‏ فهو يفعل لله ويترك لله ويقوم لله ويقعد لله‏,‏ هذا هو المسلم الذي يحب الحياة‏.

أيها المسلم تمسك بهذه الآية الدستور وتأمل فيها وسر عليها‏: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ‏}..‏ ثانيا‏: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}..‏ ثالثا‏: {‏وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ}..‏ رابعا‏: {وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ},‏ ولا تطع أحدا من المفسدين‏,‏ ولا تعد عيناك عن المؤمنين‏,‏ فإن الله – سبحانه وتعالى-‏ يرضى عنك برضاه ويهديك بهدايته ويرحمك برحمته‏,‏ قال –سبحانه وتعالى- : {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة‏:10],‏ وقال‏: {وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج‏:77].

‏ وقد فرض الله – سبحانه وتعالى- علينا خمس صلوات في اليوم والليلة‏,‏ وليس هناك دين قد علق أتباعه قلوبهم بربهم كالإسلام‏,‏ فهم على صلواتهم دائمون‏,‏ وفي الصلاة أمرنا ربنا بالقراءة والركوع والسجود‏,‏ وأمرنا - وبين ذلك- أن نبتعد عن الفاحشة والمنكر‏,‏ وأن نلهج بذكره‏,‏ وأن نفعل الخير كله‏,‏ ولا يأمر دين أتباعه كما أمر الإسلام بذلك كله‏,‏ فقلب المسلم معلق بربه‏,‏ فالحمد لله رب العالمين على نعمة الإسلام التي قد منحها لنا من غير بحث‏,‏ ومن غير حول منا ولا قوة‏..‏ نجاك فاشكر الله‏,‏ وأول كلمة في الفاتحة {الحَمْدُ للهِ} [الفاتحة‏:2]‏ كلمة عجيبة غريبة‏,‏ وكأن كل الحمد إنما هو لله جل جلاله‏,‏ وكأنما جميع أجناسه إنما هو لله‏,‏ وكأنما هي كلمة جامعة تعبر عن منهج المسلم في الحياة‏,‏ فالحمد لله على نعمة الإسلام.‏

د.على جمعة




المقالات ذات صله