إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
هذه هي الآية التاسعة من سورة الحجر في القرآن الكريم، وهي وعد من الله الذي أنزله بأن يحفظه، ولم يكن في مقدور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولا أحد من البشر من بعده أن ينفذ هذا الوعد. ولكن الواقع الذي نعيشه يؤكد أن الوعد قد تم، ويزداد الإعجاز عبر الزمان من كل جهة؛ فإن القرآن لم يحفظ في الخزانات بعيداً عن الناس، بل حفظه الأطفال بالملايين في كل مكان، وزاد من الإعجاز أن حفظه من لم يتعلم العربية ولم يعرف فيها كلمة واحدة.
وقد تعرض القرآن الكريم لمحاولات التحريف فلم تفلح، ولمحاولات الترجمة الخاطئة السيئة النية فلم تؤثر فيه، ولمحاولة الطباعة المحرفة، فبقي كما هو، ولمحاولة تقليده ومحاكاته بسيء الكلام وركيكه فلم يزحزح عن مكانته، بل إن كل ذلك أكد معجزته الباقية عبر الزمان، وأعلى من شأنه في صدور الناس، وكان كل ذلك بالرغم مما اشتمل عليه من العدوان والطغيان سبباً في تمسك المؤمنين به، وباباً جديداً للدعوة إلى الله ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وبدلا من إبادة المسلمين التي أرادها مشركو مكة ومن بعدهم الفرس والروم ومن بعدهم الفرنجة والتتار ومن بعدهم الاستعمار والتعصب في الشرق والغرب بدلاً من ذلك انتشر الإسلام وأصبح عدد المسلمين أكبر أتباع دين طبقاً لموسوعة جينز للأرقام القياسية، وهم يقدرون الآن بمليار وثلاثمائة مليون نسمة، وأحب أن أروي شيئا من هذه الرحلة القرآنية :
1- نزل القرآن بلغة العرب، وظل محتفظاً بلغته إلى يومنا هذا، وهذا الاحتفاظ جعله مرجعاً لكل من حاول أن يترجمه إلى لغة أخرى، ولقد ترجم منذ العصور الأولى خاصة ما ورد منه في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأكاسرة والقياصرة؛ حيث وردت بعض الآيات في هذه الرسائل فترجمت إلى لغات المرسل إليه أثناء تلاوتها عليهم، والآن ترجم القرآن إلى أكثر من مائة وثلاثين لغة بعضها ترجم مرة واحدة وبعضها ترجم أكثر من مائتين وخمسين ترجمة كما هو الحال في اللغة الإنجليزية مثلا، وكثير منها ترجم مرات عديدة، وفي كل الأحوال يبقى النص القرآني هو المرجع، فالترجمة قد تكون سيئة النية وقد تكون من نص آخر غير العربية (كترجمة شوراكي إلى الفرنسية والترجمة إلى الأسبانية ..... إلخ) وقد تكون من شخص يجهل إحدى اللغتين أو اللغة المترجم إليها، وقد تكون ترجمة مذهبية أو طائفية أو شارحة لرأي المترجم. وفي كل الأحوال قد تكون مفككة وركيكة التركيب وقد تكون بليغة راقية الأسلوب، ولكن يبقى الأصل العربي ليرفع النزاع ويمثل الإسلام تمثيلاً حقيقياً من تحريف أو تخريف، وهذه مزية تفرد بها القرآن عن سائر الكتب المقدسة.
2- نقل القرآن بالأسانيد المتصلة المتكاثرة التي بلغت حد التواتر الإسنادي والجملي، ولقد أورد ابن الجزري في كتابه (النشر في القراءات العشر) أكثر من ألف سند من عصره (القرن التاسع الهجري) إلى القراء العشرة وهم قد نقلوا القرآن ممثلين عن مدن بأكملها كلها يقرأ كما كانوا يقرأون، وهذا ما يسمى بالتواتر الجملي؛ فلأن الناس جميعا يقرأون القرآن في مدينة معينة بهذه الطريقة وبهذا الأداء فكان هؤلاء القراء مجرد مندوبين عنهم وممثلين لقراءتهم وحافظين لطريقتهم في التلاوة وارتضاهم أهل كل مدينة لما رأوا فيهم مزيد الاهتمام وتمام العلم، فشهدوا لهم جميعا بذلك، فهناك ابن كثير (القارئ وليس المفسر) في مكة، وهناك نافع وأبو جعفر في المدينة المنورة، وهناك عاصم والكسائي وحمزة في الكوفة، ويعقوب وأبو عمرو بن العلاء في البصرة، وابن عامر في الشام، وخلف في بغداد وهؤلاء العشرة يرون قرآنا واحداً وطريقة كل واحد في القراءة تفسر القرآن تفسيراً يجعله واسعاً قادراً على أن يكون مصدراً للهداية إلى يوم الدين مع تغير الأحوال وتطور العصور.
والقرآن ما زال بين أيدينا قرآنا واحداً، وامتلأت كتب التاريخ والأخبار بمن قرأه قراءة خاطئة أو تعمد تحريفه، وظل القرآن كما هو لا يتزحزح ولا يتغير ولا توجد فيه نسخ كثيرة، ولا يحتار المسلم بين نسخة وأخرى ولا يحتاج إلى أن يتخير منها عدة نسخ، بل هو قرآن واحد من طنجة إلى جاكرتا ومن غانا إلى فرغانة. وكان جديراً بعد كل هذا أن يتغير لكنه لم يكن كذلك، إنه محفوظ في الواقع المعيش، ويحلو لبعض الناس أن تحشر هذه المخالفات من كتب التاريخ وهي مذكورة لتبين للناس أجمعين وفي كل العالم أن هذا الكلام من الحجارة التي ألقيت على القرآن أثناء مسيرته لم تؤثر فيه، وأنه تعرض لكثير من الضجيج ولكثير من الهجمات، فكان جبلاً شامخاً بحت، ليس من حول المسلمين وقوتهم؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا الله، بل بحفظ الله له كما وعد سبحانه.
3- ثم رأينا تقريبا كل مائتي عام من يقوم فيحاول محاكاة القرآن تكبراً أو مدعياً للنبوة أو الألوهية أو سافراً أو مفسداً في الأرض أو غير ذلك، فرأينا مسيلمة يحاول أن يحاكي جرس القرآن في كلمات هي أقرب إلى المزحة منها إلى الهداية، وكذلك سجاح وهي امرأة ادعت النبوة وأسقطت من فوقها شيئا من الصلاة، وجاءت محاولة أبي العلاء المعري في كتابه الفصول والغايات وإن صدقت الرواية فإنه يكون النزق اللغوي الذي يغري صاحبه بمثل هذه المحاولة، ويروى أن الناس قالت له : لما لا نجد عليه طلاوة كما نجدها في القرآن. قال : اقرأوه أربعمائة سنة في المحاريب تجدوا له طلاوة. (وكأن طلاوة القرآن جاءت من إلف الناس لا من جرسه الذاتي الداخلي) ونسي أبو العلاء إن صح عنه هذا أن القرآن كان عليه طلاوة وله حلاوة حينما أُنزل وليس بعد أربعمائة عام حتى قال الوليد بن المغيرة وهو لم يؤمن ولم يسلم : (إن له لطلاوة وإن عليه لحلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو يقول هذا بشر). وكتاب (الفصول والغايات) مطبوع مرتين موجود بالأسواق يمكن لأي شخص أن يقرآه وسيعلم حينئذ ما معنى القرآن وما معنى كلام الله وما الفرق بين كلام الله وكلام البشر، وأن هذا القرآن ما كان في مقدور أحد أن يفتريه من دون الله.
وعند ابن المقفع الأديب المشهور مترجم كليلة ودمنة كتاب حاول فيه أيضا ذلك وهو (الدرة البهية) وهو مطبوع أيضا وإن كان أصغر حجماً بكثير من (الفصول والغايات) وهو إن صح ما قيل في شأنه فإنه دلالة أخرى على ذلك.
وهناك كتاب (البيان) وكتاب (الأقدس) عند البهائيين، وهناك محاولة هزلية من بيرم التونسي نراها في مجموعته الكاملة التي نشرت بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد أعلن بيرم التونسي التوبة وصدقت توبته من هذه المحاولة الهزلية التي سخر فيها من حزب الوفد ومن سعد زغلول بما يشبه جرس القرآن وكان رحمه الله يقول : (لا أجعل في حل من يروي عني ما قلته) ثم ألف في هذه التوبة أغنية نداني لبيته لحد باب بيته التي غنتها أم كلثوم يتكلم فيها عن رجوعه وتوبته إلى الله بعد إسرافه على نفسه.
4- وعلى شبكة المعلومات الدولية نرى أنيس سورس وهو مسيحي من فلسطين غادرها سنة 1976 قد ألف شذرات أسماها (الفرقان الحق) وجعله في 77 سورة واختار أسماء لها تشبه أسماء سور القرآن تبدأ بسورة الفاتحة وحملها العقائد اليهودية والمسيحية وطبع كتابه في دار نشر أومجا 2000 بأمريكا، ويباع كتابه هذا بعشرين دولاراً أمريكياً. وهو دليل آخر على عظمة القرآن بصورة قاطعة، فالفرق بين فرقان سورس الذي يعلن أنه من عند نفسه وبين القرآن الكريم كالفرق بين المخلوق والخالق. وإذا قرأت هذا المؤلف فمرة تضحك، ومرة تحصل لك كآبة، وعلى كل حال تجده مفككاً ويحزن المرء أن يضيع عمره في هذا الهراء. مقارنة بسيطة بين هذا الكلام وبين القرآن تعلي من مكانة القرآن في نفسك وتعرف أنه من عند الله فعلا، وتتم كلمة الله في حفظه على مر العصور، إن حفظة القرآن وتوفيق الله لهم في علوم القرآن وأسانيدها ليس من عملهم بل من إرادة الله.
5- إن العشرين سنة القادمة هي سنين القرآن والدراسات القرآنية فهو كتاب هداية لمن أراد أن يجعله كذلك، وهو يتضام ويغلق أمام من أراد العبث به أو معه. قال تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت :44] وقال سبحانه {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} [الإسراء :82] فهو هدى للمتقين وحجة على المفسدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.