الصحابة الثلاثة الذين أقيم عليهم حد القذف
"إياك يا جري أن تنظر إلى هذا البدري شزرا لهفوة بدت منه، فإنها قد غفرت، وهو من أهل الجنة، وإياك يا رافضي أن تلوح بقذف أم المؤمنين بعد نزول النص في براءتها فتجب لك النار ".. هكذا تحدث الإمام الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء عن الصحابي المهاجر البدري "مسطح بن أثاثة" الذي توفى سنة 34 هـ، وكان قد هاجر إلى المدينة وشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه على الرغم من ذلك وقع في مصيدة حادث "الإفك" فكان ممن خاضوا فيها وأقيم عليهم الحد..
كان قصيرًا، غائر العينين، شثن الأصابع (أي غليظ الأصابع) يقول الذهبي في وصفه القصير عن "مسطح ابن أثاثة"، كان من بين الذين خاضوا في حادثة الإفك، واشترك معه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم "حسان بن ثابت" الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داوود والترمذي: "إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح عن رسول الله". وأيضًا حمنة بنت جحش، شقيقة أم المؤمنين زينب بنت جحش. فكيف خاض صحابة لرسول لله في أمر كقذف عائشة رضي الله عنها؟ ولم طبق عليهم الحد دون أن يطبق على المنافقين؟ وكيف تعامل الصحابة معهم بعد ذلك؟
اشترك مسطح مع غيره في حديث الإفك ضد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فتقول عائشة في حديثها الوارد بصحيح البخاري: قدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، ...، ولا أشعر بالشر حتى خرجت حين نقهت فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا،...، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا".
فرفضت عائشة أن يسب رجل شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهت أمه عن سبه قبل أن تعرف ما خاض فيه مسطح، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تعرف فيها عائشة بحديث الإفك، لكنها بعد ذلك كانت ترفض بشدة أن يسيء أحد إلي الصحابة في حضورها، فكان ممن خاضوا في الحديث أيضًا حسان ابن ثابت، لكنها رفضت أن يسبه أحد، فكانت تسير عائشة برفقة بعض النسوة فقابلن حسان فقالت : لا تسبوه ، قد أصابه ما قال الله : أولئك لهم عذاب أليم وقد عمي ، والله إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بكلمات قالهن لأبي سفيان بن الحارث :
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
وحين نزل الوحي يبرئها بقوله تعالى: "إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم..."، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: " وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، حينها قال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
لم يكن تقدير مكانة الصحابة بمانع عن أن يقام عليهم الحد، فطبق حد الجلد في حادثة الإفك في مسطح بن أثاثة، وفي حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي حمنة بنت جحش، وهي شقيقة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، التي قالت عنها عائشة إنها حاربت لأختها التي تورعت عن أن تخوض في عائشة، حيث قالت زينب حين سألها الرسول عن عائشة: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا
وقد روي القرطبي في تفسيره لآيات حديث الإفك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حد حسان ومسطح وحمنة، وذلك في حديث عائشة من سنن أبي داوود : عن عائشة رضي الله عنها قالت لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذاك وتلا تعني القرآن فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم. وعلى الرغم من ان الحد أقيم على الصحابة، إلا أنه لم يقم على عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، وقد فسر القرطبي ذلك في تفسيره بقوله: لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما ؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه،...، وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة ، وقد قال : صلى الله عليه وسلم - في الحدود إنها كفارة لمن أقيمت عليه.