العملية السويسرية-من ملفات الجاسوسية

منذ سطع نجم أدولف هتلر فى ألمانيا، عقب فوزه الساحق فى انتخابات الحزب النازى عام 1929، بدأ صيته ينتشر، فى أوروبا كلها، وبخاصة مع خطبه الحماسية، التى التهبت بها عقول وقلوب الشباب.. ليس فى دولته وحدها، لكن فى عدة دول أوربية محيطة، على نحو أثار الكثير من القلق السياسى والعسكرى، وخاصة وأن المحللين قد تنبأوا بأن شخصاً مثله لا يمكن أن يهدأ له بال قبل أن يبسط نفوذه على رقعة واسعة من أوروبا، ولابد أ ن يسعى حتماً للخروج من معاهدة فرساي، التى أذلت ناصية ألمانيا، وسحقت روحها المعنوية، إثر هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى
*******
وفى عام 1932، تقدم هتلر لترشيح نفسه، كرئيس مقبل لدولته إلا أنه، وعلى الرغم من أسلوبه الدعائى الجديد، لم ينجح فى هزيمة هندنبورج، الذى صار رئيساً للبلاد، فى نفس الوقت الذى حصل فيه حزب هتلر النازى، على أكبر عدد من مقاعد الريشستاج ووفقاً للنظام الدستورى النيابى، كان من المحتم على هندنبورج، أن يمنح هتلر رياسة الوزراء، على الرغم من اختلافه التام معه، شخصياً وايدولوجياً
ومنذ اللحظة الأولى، التى استقر فيها هتلر، على مقعد رياسة الوزراء، بدأ سياسة قمعية مخيفة، واتهم الشيوعين ورجال الأعمال اليهود، بأنهم المسؤلون عن هزيمة ألمانيا، فى الحرب العالمية الأولى، وبدأ فى اضطهادهم واعتقالهم بلا رحمة، وانشأ السجون المعتقلات وصنع جهاز الجستابو، وجهاز S.D بقيادة الجنرال هملر، وأطلق أبواق دعايته، ومن خلال وزارة الدعاية، التى رأسها جوزيف جوبلز، أشهر من تعامل مع كل انواع الدعايات والشائعات فى التاريخ
ثم بدأ يبنى جيشه، ويدعم قوته، على نحو لم تعرفه أوروبا من قبل قط ومن المصانع الألمانية، خرجت العشرات الأسلحة والمعدات دبابات.. طائرات.. مدرعات.. أسلحة.. خفيفة.. ذخائر وتكونت قوات العاصفة، التى استعد شبابها للموت فى سبيل هتلر، قبل أن يكون هذا فى سبيل ألمانيا
*******
كان من الطبيعى، والحال هكذا، أن يطيح هتلر بمنافسه هندنبورج، فى الانتخابات الرئاسية التالية، وأن يصبح رئيس ألمانيا، ورئيس وزرائها، وقلبها النابض بالحماسة والقوة أيضاًوالعجيب أن أوروبا كلها قد رأت هذا وتابعته
ولم يتحرك أحد ..
الكل اكتفى بالمراقبة والمتابعة، فى حذر متوتر، مع تساؤل كبير، عما يمكن أن يقدم عليه هتلر، فى المرحلة التالية؟
وكان من الطبيعى أن يروق هذا للزعيم أدولف هتلر، وأن يتوافق مع هواه، ومع رغبته فى بناء قوته، وتنظيم جيوشه التى راحت تنمو.. وتنمو.. وتنمو
*******
ولكن فجأة، وفى ذروة ما يحدث، وبينما يبذل الكل قصارى طاقاتهم، لبناء ألمانيا النازية، والرايخ الثالث القوى، اقتحم هملر مكتب الفوهلر، بكل توتر الدنيا، وهو يلوح بكتاب فى يده، هاتفاً: كارثة ايها الفوهلر العظيم.. كارثة
انعقد حاجبا هتلر فى شدة، وارتسم على وجهه كل تورتر الدنيا وهو يقول: أية كارثة يا جنرال؟
وضع قائد الجستابو الكتاب، أمام الفوهلر، وهو يقول فى عصبية: صحفى سويسري، كشف كل تنظيمات جيوشنا
هتف هتلر، وجسده ينتفض فى عنف: كشف ماذا؟
تابع هملر ليس هذا فحسب، وإنما نشر كل التفاصيل فى كتاب، وطرحه للبيع للعامة، فى المكتبات ودور الصحف
ولقد كتب هملر فى مذكراته، انه لم يرى هتلر أشد انزعاجاً- فى تلك الفترة- منه عندما سمع هذا الخبر ،حتى أن عينيه قد اتسعتا عن آخرهما وبدا أشبه بالشارد المصدوم، وهو يحدق فى الفراغ لبعض الوقت، قبل أن يتساءل بصوت مختنق، على الرغم من محاولته الحفاظ على صرامته المعهودة: وكيف حصل على كل هذه المعلومات؟
اعتدل هملر، وهز رأسه فى توتر، قائلاً: لا أحد يدرى
تراجع هتلر فى مقعده ببطء وظل يحدق فى وجه هملر بضع لحظات، قبل أن تستعيد ملامحه صرامتها الحقيقية، التى بدت واضحة فى صوته، وهو يضرب سطح المكتب براحته، هاتفاً: أريد ذلك الصحفى يا هملر.. أريده هنا بأسرع وسيلة ممكنة.. هل تفهم؟
شد هملر قامته، وأجاب بمنتهى الحزم والحسم: أفهم أيها العظيم الفوهلر.. أفهم تماماً
*******
كرجل جستابوا ومخابرات محنك، بدأ هملر تحركاته، فور مغادرته مكتب الزعيم ادولف هتلر، مباشرة وبعد مرور ساعة واحدة، كان قد أصدر أوامره بالقيام بعمليتين سويسريتين، فى آن واحد
العملية الأولى، التى أطلق عليها صائد الفئران، كانت تقتصر على جمع كل نسخ كتاب الصحفى برتولد جاكوب، من أسواق سويسرا و اوروبا، على نحو دقيق مدروس، بأسرع وسيلة ممكنة
اما العملية الثانية، والتى حملت اسم العملية السويسرية فكانت تخص الصحفى برتولد جاكوب نفسه وكان الهدف منها معرفة الوسيلة، التى جمع بها كل ما لديه من معلومات، عن الجيش النازى، ومواقعه، وتفاصيله الدقيقة
ووفقا لخطة هملر، لم تكن هناك سوى وسيلة واحدة، للحصول على الحقائق الكاملة من الصحفى السويسرى، ألا وهى استجوابه بالوسائل الألمانية النازية المعروفة فى ذلك الوقت
وهذا لا يمكن تحقيقه الا بوسيلة واحدة
إحضار الصحفى إلى ألمانيا
او بمعنى ادق.. اختطافه
*******
على الرغم من ان سويسرا دولة محايدة، وظلت على حيادها، قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، لم يتردد أدولف هتلر لحظة واحدة، فى الموافقة على تنفيذ العملية السويسرية
وفى مساء اليوم نفسه، سافر اثنان من رجال جهاز المخابرات النازى إلى سويسرا وهما يحملان حقيبة ضخمة حوت على بعض الملابس والمعدات البسيطة لكليهما
والواقع أن عملية اختطاف جاكوب هذه لم تمثل أية صعوبة، بالنسبة لاثنين من رجال المخابرات الالمانية المدربين
فالصحفى لم يكن يتوقع، او حتى يتخيل عملية اختطاف فى قلب بلد محايد رسمياً وفعلياً مثل سويسرا، ثم إن الزمن لم يكن زمن حرب من الناحية الرسمية على الأقل
لذا، فلم تغرب شمس اليوم التالى، حتى كان جاكوب فى طريقه إلى ألمانيا داخل تلك الحقيبة الكبيرة
وقبل أن تشرق الشمس مرة أخرى، كان يرتجف، بكل رعب الدنيا، داخل مقر المخابرات الألمانى المعروف باسم بيت الثعالب، فى مواجهة اخطر رجل فى الرايخ الثالث، بعد أدولف هتلر مباشرة
*******
وفى صرامة وحشية، سأله هملر: كيف حصلت على تلك المعلومات، التى نشرتها فى كتابك؟
حدق فيه جاكوب بدهشة مذعورة، وهو يتسائل: أى كتاب؟
لم يكد السؤال يتجاوز شفتيه، حتى هوت لكمة قوية على انفه، وثانية على فكه مع ثلاث صفعات متوالية على وجهه، جعلت رأسه يدور فى عنف، والدماء تغمر وجهه كله، فهتف وهو يبصق الدم، من بين أسنانه المحطمة: أى كتاب؟! أقسم إننى أتساءل بصدق
زمجر هملر بغضب هادر، وهو يصرخ فى وجهه: الكتاب الذى كشفت فيه، كل أسرار الجيش النازى العظيم
حمل صوت جاكوب كل دهشة الدنيا، وهو يهتف: أسرار؟! لم أتصور لحظة واحدة أنها أسرار
زمجر هملر مرة أخرى، واستعدت القبضات القوية لتهوى على وجه الصحفى المسكين مرة أخرى، فهتف فى ارتياع: لم أتصور هذا؛ لأننى جمعتها من الصحف.. صحفكم الألمانية
صاح فيه هملر فى شراسة: أى قول أحمق هذا.. هل تحاول أقناعى بأننا ننشر أسرارنا العسكرية على صفحات صحفنا؟
هتف جاكوب فى رعب: ليس كل الصفحات، بل صفحة واحدة فقط
ردد هملر فى عصبية : صفحة واحدة؟
إجابه جاكوب، فى لهجة أقرب إلى البكاء، من فرط الرعب والارتياع: نعم.. صفحة الوفيات
*******
كان جوابه صدمة حقيقية
صدمة عنيفة للجميع
وبالذات للفوهلر ادولف هتلر، الذى هتف مستنكراً، فور سماعه: صفحة الوفيات ؟! هل يدّعي أنه قد حصل على أسرار جيشنا العظيم، من خلال صفحة الوفيات؟! هل يتصور أنه بمقدوره خداعنا الجواب الساذج؟
تنحنح هملر فى حرج وتوتر، قبل أن يجيب :الواقع أن جوابه حقيقى تماماً أيها الفهولر العظيم ولقد تأكدنا من هذا بانفسنا
تراجع هتلر كالمصعوق، وهو يهتف: وكيف هذا؟
التقط هملر نفساً عميقاً، ليجيب فى أسف: صفحات الوفيات كانت تحمل الكثير من المعلومات بالغة الخطورة، التى تمضى من تحت انوفنا، دون أن نشعر بمرورها، ففى نعي ما، تُكتب الفصلية رقم كذا، المتمركزة فى منقطة كذا، أنها تنعى شقيق قائدها الكولونيل فلان، الذى لقى مصرعه فى حادث طريق مؤلم، وفى نعى آخر يتقدم الجنرال فلان، قائد كتيبة رقم كذا، الموجود فى منطقة كذا، عزائه البالغ لضابط علان، لوفاه أمه، وهكذا.. عشرات المعلومات العسكرية، يتم نشرها كل يوم، فى صفحات الوفيات، دون أن يدرك أصحابها انفسهم مدى خطورتها
لوح هتلر بيده ،قائلاً فى غضب: ومادام صحفى مثل برتولد جاكوب هذا قد أمكنه جمعها، فما الذى يمنع العدو من المثل؟
أشار هملر بسبابته، قائلاً: بالضبط
ضم ادولف هتلر قبضته، وأسند ذقنه عليهما لبعض الوقت، وهو يعيد التفكير فى الموقف كله مرة، و مرة
ومرات..
قبل أن يرفع عينيه إلى هملر، قائلاً فى خشونة صارمة، تحمل نبرة غضب واضحة: لابد أن نستفيد من الدرس يا جنرال.. وبسرعة
أومأ هملر برأسه، مغمغماً: بالتاكيد أيها الفوهلر العظيم.. بالتأكيد
والواقع أن هملر قد استفاد كثيراً من درس كتاب برتولد جاكوب
بل وكل أجهزة المخابرات قد استفادت به من بعده
*******
فمنذ ذلك اليوم، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يعد مسموحاً للجهات العسكرية بنشر أية تفاصيل، فى صفحات الوفيات بالصحف، أو حتى فى أية صفحات اخرى، إلا بعد الرجوع إلى جهة مسئولة، هى المخابرات الحربية فى الغالب
بل إن بعض الدول لم تعد تسمح بنشر أى نعى عسكرى من أية جهة عسكرية، او ذكر ما يزيد على رتبة المتوفى فى حالات محدودة جداً
ليس هذا فحسب، لكن هملر استفاد بالدرس إلى حد يتجاوز بكثير وكثير جداً أيضاً..
لقد أدرك كم يفيد الاطلاع على كتب الخصم، واخباره، وصحفه، وحتى صفحات وفياته
ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا أساساً من أسس عمل المخابرات، فى كل دول العالم، من أقصاه إلى أقصاه ،أن يتم الحصول على كل ما يصدر فى الدول المحيطة، العدوة أو الصديقة، من صحف ومجلات وكتب وأخبار
ولقد حقق هذا الأسلوب نجاحاً منقطع النظير، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ومابعدها، حتى أنه هناك سباق دائم للحصول على الطبعات الأولى من الصحف، عبر عمال المطارات، فى مختلف أنحاء العالم
والأهم من كل هذا وذاك، أن هملر قد أدرك أهمية المعلومات، فى حروب الدعاية الحديثة، مما جعله ينشئ ما عرف باسم مخابرات الدعاية، أى المخابرات المسئولة عن جمع المعلومات، لتوظيفها فى خدمة الدعاية والحرب النفسية
*******
وهكذا، اعتبر عام 1935، هو عام العملية السويسرية، نقطة تحول واضحة وقوية، فى مسار نظم الاستخبارت العالمية، أنطلاقاً من التطورات التى قام بها هملر، و التى كان لها أكبر الأثر، فى التأثير على الروح المعنوية البريطانية والفرنسية، من خلال استغلال وزير الدعاية جوبلز لها فى ما يبثه من إذاعات موجهة، وما يلقيه من منشورات قوية
أما برتولد جاكوب نفسه، فقد تم الإفراج عنه وإعادته إلى سويسرا، بعد أن حصل على تعويض سخي، من جهاز الجستابو النازى، وربما كان اول و أخر من يحصل على مثل هذا التعويض، فى تاريخ جهاز الأمن الألمانى كله
لكن التعويض كان مصحوباً بجملة مهمة جداً
جملة وجهها إليه هملر شخصياً، وهو يقول: المال يحتاج إلى شخص حى لينفقه، ويستمتع به.. هل تفهمنى جيداً يا هر جاكوب؟
وفهم جاكوب جيداً
وأطبق شفتيه تماما ..
*******
وطوال السنوات العشر من 1935م، وحتى 1945م لم ينبس برتولد جاكوب بحرف واحد، عما حدث له ،فى قلب ألمانيا النازية
الخوف جعله يطبق شفتيه، ويمسك لسانه، ولكنه أحتفظ بنسختين من كتابه، الذى تسبب فى اختطافه
الكتاب الذى يحوى كل أسرار الجيش النازى
وحرصاً على ضمان السرية، تم تغيير مواقع كل القوات الجيش النازى، قبل أن تبدا الحرب الفعلية، عام 1939م
وكانت نجاحاته واكتساحه لجيوش أوروبا مضرب الأمثال
ولكن ديكتاتورية هتلر لم تصمد أمام الحلفاء
وبدأ الجيش النازى ينهزم.. وينهزم.. وينهزم
وفى عام 1945م، سقطت ألمانيا، وانتحر هتلر، وانمحى من الوجود تماما الرايخ الثالث والأخير
وفى اوائل عام 1946م، نشر برتولد جاكوب قصته، مع إعادة لنشر كتابه السابق
وعرف العالم كله قصة تلك العملية، التى كانت السبب فى تغيير كل نظم المخابرات العالمية
العملية السويسرية..
*******
-د.نبيـل فـاروق
.............منقوووووووووووول للفائدة.............




المقالات ذات صله