الرجل الفيل .. معاناة إنسان حوله المجتمع إلى مسخ مخيف
الرجل الفيل .. معاناة إنسان حوله المجتمع إلى مسخ مخيف
كثير منّا يتمنّون لو خلقهم الله بشكل أجمل من شكلهم الحالي، و العديد يتدافعون على عيادات التجميل و يدفعون الألوف المؤلفة من أجل تحسين مظهرهم و الحصول على الجمال الزائف...العديد من النساء يشتكين ليل نهار من "قبحهن" و "معاناتهن" لوجود بضعة تجاعيد في الوجه، أو خانة صغيرة تكاد لا تُرى، أو لبضعة بثور هنا و هناك. و لكن لو قدّر لهؤلاء الاطّلاع على قصّة (جوزيف ميريك Joseph Merrick) أو "الرجل الفيل" كما يُلقّب، لعرفوا ما هي المعاناة الحقيقية، و لعرفوا ما هي بشاعة الخلقة و قبح المنظر (و جمال الروح أيضاً)...
أصابه مرض غريب ترك اثارا رهيبة و عجيبة على جسده
الى اليسار صورة لجمجمة الرجل الفيل و يمكنك عزيزي القارئ مشاهدة التشوه الكبير الذي اصابها و الى اليمين صورة قديمة و حقيقية للرجل الفيل
لقد اعتبر الكثيرون أن "جوزيف ميريك" هو واحد من أقبح و أبشع المخلوقات و أكثرها اشمئزازاً على الإطلاق، لقد عانت هذه الروح المعذّبة من تشوّهات خلقية منذ الولادة جعلت شكله أشبه بالفيل و جعلت الناس يعجزون عن التصديق بأنّه إنسان، فراحت الشائعات و الأقاويل تزعم بأنّه ليس إنساناً و بأن والدته اغتصبها فيل في السيرك لهذا فهو ابن فيل أي أنّه أقرب للحيوانات منه للبشر...و المسكين صدّق تلك الأقاويل و بقي طوال حياته مقتنعاً بأنه نصف فيل و نصف إنسان، طوال سنواته الستّة و العشرين التي أمضاها في هذه الدنيا الظالمة، طوال ستّة و عشرين سنة من العذاب المتواصل و السخرية و الاستعباد و الاستغلال رغم انه إنسان بمعنى الكلمة وحساس جدا وغاية في الثقافة والرقي (حيث كان يجيد القراءة و الكتابة في حين كان أغلب سكان بريطانيا أميين) إلا ان الناس لا تنظر إلا للمظاهر كالعادة وتبتعد عن الجوهر الفعلي للشخص...حلّت عليه لعنة الغربة عن البشرية , فهو يعيش في عالم غير عالمي و عالمك عزيزي القارئ , يقف على مسرح السيرك ليكشف عيوبه الخلقية أمام المشاهدين فيستمتعون في وقتهم و يبكي هو في داخله , لا يسمع أنينه أحد....اعتبره الناس مسخاً و وحشاً غريباًـ تخلّى عنه الجميع بمن فيهم عائلته و رفض الجميع مجرد الاقتراب منه فلم يجد من مكان للاسترزاق غير السيرك ليعرض فيه نفسه أضحوكة للناس الذي يأتوا من أماكن بعيدة ليتفرّجوا على هذا "المسخ" و يستهزئوا به، الكثير من الأمّهات تأتين بأطفالهن للسيرك لتخويفهّن به في حالة ما إذا كانوا أشقياء، العديد من الشبّان يقذفونه بالطماطم الفاسدة و حتّى الأحجار على وجهه المشوّه ليستمتعوا به و هو يبكي بصمت.....
و لكن من هو هذا "الرجل الفيل" و ما قصّته ؟؟ دعونا نتعّرّف في هذه السطور على مأساة إنسانية خلّدها إصرار هذا الشاب على حبّ الحياة، ذاته الداخلية الفطنة المرهفة الواعية، رغبته الفياضة في أن يحب، وأن يعانق الجمال والحياة كانسان سوي لا كاستثناء، وكيف انه واجه وحده، بكل كيانه العاجز، حقيقة الحياة التي تنطوي على قسوة ضارية، حتى أن موته كان برأي كثيرين، انتحاراً مقصوداً .
ولد (جوزيف ميريك) بمدينة "ليستر" ببريطانيا سنة 1862، وُلد بتشوّهات بدت بسيطة في حينها رغم أن والديه طبيعيان تماماً...عاش سنواته الأولى مع أمّه و أخيه آرثر و أخته ماريون، عندما أصبح في عامه الثاني لاحظت أمه - ماري جين ميريك - تغيّرات تحدث في جسده فقد بدأت كتل بالنمو تحت الجلد عند منطقة الرقبة والصدر وبشكل أكثر خلف رأسه ..
وشعرت بالقلق على ابنها .. فالذي يحدث له .. أمر غريب وغير مألوف !؟....ومع مرور الزمن بدأ يصبح شكله أكثر غرابة تدريجياً، الجهة اليمنى من رأسه و ذراعه و يده بدأت تتضخّم بشكل كبير حتى أصبح لا يستطيع تحريك ذراعه وأضحت دون فائدة وبدأت الكتل على رأسه وظهره .. تكبر بشكل مخيف ومقـزز ! عند سن الخامسة. أصبحت استدارة رأسه عظيمة الكبر بنتوءين ضخمين من الخلف و أصبحت ضخامة الفكين تمنعاه من النطق الواضح فأصبح أضحوكة الحيّ و كلّما رآه زملائه تجمّعوا حوله للاستهزاء به و إلقاء النكت عنه و لكن قلب أمّه الحنون ساعده على الصمود و علّمه مواجه قسوة الحياة منذ الصغر.
عندما بلغ الحادية عشرة من العمر توفّيت أمّه التي كانت سنده الوحيد في هذه الحياة تاركة إيّاه في عهدة أب سكّير لا يأبه له و لا يكترث لأمره و زاد الطين بلّة عندما تزوّج أبوه من زوجة ثانية، و التي كانت قاسية جداً معه حيث طردته من المنزل و هو لا يزال ابن الثانية عشر، مما أجبره على البحث عن عمل هنا و هناك...و لكن هيهات، أينما حلّ كانت السخرية و الاستهزاء يلاحقانه، وضع ميريك في دار للفقراء وهو في سن السابعة عشرة، لكنه هرب منها بعد سنوات بعدما أصبحت الحياة هناك لا تطاق، بعدها لم يجد من ملجأ سوى في "سيرك المسوخ" و هو نوع من السيرك يقوم بعرض الناس ذوي الأشكال الغريبة و التشوّهات الخلقية ليأتي الناس و يتفرجّوا عليهم و يتسلّوا بهم....قد أستغله صاحب السيرك السيّئ المدعو (بيرتس) الذي أخذه و وضعه في قفص حقير في إحدى دور السيرك و أستغل شكله الغريب المُشوه ليقوم بعرضه أمام الناس على أساس أنه شبيه بالفيل و أطلق عليه أسم ( الرجـــل الفيـــــــــــل ) .. مما يجعله يجنى الكثير من المال من الطامعين في رؤية شكل هذا الرجل المسكين .
وأثناء عذابه مع صاحب السيرك الجشع رآه (الدكتور تريفيس Dr. Frederick Treves ) و هالته الحالة التي هو عليها فعطف عليه و أراد تقديم يد العون له، لكن نخوة (جوزيف) لم تسمح له بقبول ما اعتبره صدقة حيث أجابه :"أنا لستُ شحّاذاً" و رفض عرض الدكتور تريفيس، بعد ذلك بفترة قصيرة أصدرت الحكومة البريطانية قانوناً يحظر "سيرك المسوخ" لما فيه من استغلال وحشي لذوي الإعاقات و التشوّهات مما قطع عليه مصدر رزقه الوحيد، مما اضطره للذهاب إلى بلجيكا لعلّه يجد فرصة عمل في السيرك هناك لكنّه لم يجد غير السخرية و الضحك و الاستهزاء فقفل راجعاً إلى لندن و لجأ مضطراً إلى الدكتور تريفيس الذي أدخله مستشفى لندن حيث استطاع أن يوفر له حجرة صغيرة بالمستشفى بمساعدة ملكة بريطانيا العظمى بنفسها ليعيش بها ما تبقى له من العمر .
تغيّرت حياة (جوزيف ميريك) تدريجيا بعد دخوله للمستشفى حيث توفرت له غرفة مريحة، رعاية يومية، طعام ساخن...أمور لم يكن يحلم بها حتّى!! و تدريجياً بدأت الممرضات و الأطباء يتعودون عليه و يحبّونه، و أصبحوا يتعاملون مع (جوزيف) الإنسان...كان له العديد من المواهب التي لم تتوفر للأصحاء، فقد كان يكتب الشعر و النثر و يناقش في الفن و الثقافة و ينقد مؤلفات شكسبير، و كان يصنع بيوتاً و كنائس مصغّرة غاية في الدقة و الإتقان باستعمال ألواح خشبية صغيرة
انتشر أمره بين الناس و بلغ مسامع الأميرة "ألكسندرا" أميرة ويلز التي أمرت بأن يُنقل إلى المستشفى الملكي حيث سيحاط بالرعاية الكاملة.
حتّى أن إحدى نجمات ذلك الوقت و تُدعى السيدة كاندل قابلت (جوزيف ميريك) و تحدثت معه حول المسرح...شكسبير...الاتجاه الواقعي و الرومانسي في الفنّ....فأظهر ما بداخله من أحاسيس و أفكار و رؤى تجاه الفنّ و أصبح معها "روميو" بعد أن كان "الرجل الفيل"...
وبدأت تتوافد عليه الزيارات من العـائلات الإنجليزية الراقية .. والجلوس معه وتبادل الحديث ..
وأصبحت من أمور الوجاهة .. أن تقابل السيد - مــيريـك -.
و لأول مرة يشعر جوزيف ميريك بأنه إنسان حيث اكتشف الدكتور فريدريك المواهب والثقافة الراقية لديه وذاع صيته في المجتمع الراقي والجرائد بلندن بل و بدئت كبار الشخصيات المثقفة تأتي لزيارته وترددت عليه الأميرة اليكس وعرفت كم هو في منتهى الرقة والثقافة بل وبكت عليه كل مرة.
كان طوال حياته يردد :"أنا لست حيواناً !! أنا إنسان !! "....و رغم أنّه لم يعش حياته كإنسان، إلا أنه قرر أن يموت كإنسان....فقد كان يتعيّن عليه أن ينام مستلقيا على جنبه، لأن الاستلقاء على الظهر كان يمنعه من التنفس بصورة طبيعية بسبب حجم رأسه الكبير جدا...إلاّ أنّه ذات يوم قرر أن ينام كالناس العاديين و إن كلّفه ذلك حياته، و ذلك ما حدث إذ قرر النوم مستلقياً على ظهره فأدى ذلك إلى اختناقه و مات مختنقاً....رحل عن هذا العالم يوم 11 أبريل 1890 تاركاً وراءه حب جميع من قابلوه لأدبه الشديد و ثقافته العالية، مات متعطشا إلى الحب و هو في السابعة و العشرين من العمر، فقد ذكر أكثر من مرة بأنه يتمنى لو تقع في غرامه امرأة ضريرة على الأقل، حتى لا تفزع من شكله المخيف.
صورة لأحد الافلام السينمائية التي تروي قصة حياة الرجل الفيل
تفسير تشوهه:
كانت أولى الفرضيات التي حاولت تفسير سبب تشوهه المريع، هي الفرضية التي روّجها العامّة من أن أمّه اغتصبها فيل و بذلك يكون تشوّهه راجعاً لأنه ابن فيل !! ، الفرضية الثانية كانت إصابته بمرض Éléphantiasis و لكن هذه الفرضية أقصيت هي الأخرى لأنها تصيب سكان البلدان المدارية فقط، أما الفرضية الثالثة و التي استمر قبولها لعدة سنوات فهي أنه مصاب بمرض Recklinghausen حسب التحاليل التي قام بها الدكتور تريفيس، و لكن أخر الاحتمالات و التي استنبطها العلماء من تحليل عظامه هي أنه كان مصابا بمرض Protée .
إضافات:
- احتفظ العلماء بهيكله العظمي في كلية الأطباء بلندن، و منعت في الوقت الحالي من العرض أمام الزوار.
- ألف Bernard Pomerance مسرحية تحمل اسم الرجل الفيل سنة 1970 لاقت نجاحا كبيرا في مسرح برودواي الشهير
- أخرج David Lynch سنة 1980 فيلما مقتبسا عن كتاب الدكتور تريفيس بعنوان "The Elephant Man " حصد عدة جوائز.
- لحن الموسيقي الفرنسي Laurent Petitgirard أوبرا سمّاها باسمه
- انتشرت في الثمانينات إشاعة تقول أن المغني الشهير مايكل جاكسون قد دفع مبلغا فادحا لشراء الهيكل العظمي للرجل الفيل، بعد أن أحس أنه قريب منه إثر مشاهدته لفيلم David Lynch .
هذه كانت قصّة (جوزيف ميريك) و ما أكثر أمثاله بيننا، أناس ظلمهم المجتمع و نبذهم الناس لا لشيء سوى لأن الله خلقهم بتشوّه خلقي...كأن قسوة الحياة و تعاسة قدرهم لم تكفيهم حتّى نزيدهم نحن عذابا بتصرّفاتنا تجاههم، و كم من ضحكة غير مقصودة كانت كالسهم القاسي يصيب ذوي العيوب الخلقية في مقتل، و كم من نظرات و إيماءات ، مقصودة كانت أم غير مقصودة، تجعل ذوي العيوب يتمنّون الموت ألف مرّة على أن يروا تلك النظرات مجدداً...أتمنّى فعلا أن نحترم ذوي العيوب أو التشوّهات أو الإعاقات و نعاملهم تماماً كما نُحبّ أن يُعاملنا الناس .