قصه داود عليه السلام

هو من الرسل الذين أرسلهم الله إلى بني إسرائيل، وقد آتاه الله الملك والنبوة، وهو من سِبط يهوذا بن يعقوب، وقد ذكره الله في عِداد مجموعة الرسل عليهم السلام، وقال: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55].

نسب داود عليه السلام:

أثبت أهل التوراة وأهل الإِنجيل نسبه على الوجه التالي:

هو داود بن يسى "إيشا" بن عَوْبيد بن بوعز "أفصان" بن سلمون بن نحشون بن عِمّيناداب بن إرَام، بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب "إسرائيل" عليه السلام.

حياة داود عليه السلام في فقرات:

أ) أبرز ما تعرض له المؤرخون من حياة داود عليه السلام ما يلي:

أولاً- مقدمة عن حال بني إسرائيل منذ وفاة موسى عليه السلام حتى قيام ملك داود عليه السلام:

1- بعد انقضاء المدّة التي أقامها بنو إسرائيل في التيه - وهي (40) سنة- وبعد وفاة هارون وموسى، تولى أمر بني إسرائيل نبي من أنبيائهم اسمه ( يوشع بن نون عليه السلام )، فدخل بهم بلاد فلسطين، وقسم لهم الأرضين.

وكان لهم تابوت "صندوق" يسمونه تابوت الميثاق أو ( تابوت العهد )، فيه ألواح موسى وعصاه ونحو ذلك، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248].

2- لما توفي يوشع بن نون، تولى أمر بني إسرائيل قضاة منهم، ولذلك سمي الحكم في هذه المدّة: حكم القضاة.

وفي هذه المدة دبّ إلى بني إسرائيل التهاون الديني، فكثرت فيهم المعاصي، وفشا فيهم الفسق، إلى أن ضيعوا الشريعة، ودخلت في صفوفهم الوثنية، فسلَّط الله عليهم الأمم، فكانت قبائلهم عرضة لغزوات الأمم القريبة منهم، وكانوا إلى الخذلان أقرب منهم إلى النصر في كثير من مواقعهم مع عدوهم، وكثيراً ما كان خصومهم يخرجونهم من ديارهم وأموالهم وأبنائهم.

3- وفي أواخر هذه المدّة سَلب الفلسطينيون منهم " تابوت العهد "، في حربٍ دارت بين الطرفين، وكان ممّن يدبر أمرهم في أواخر مدّة حكم القضاة نبي من أنبياء بني إسرائيل من سِبط لاوي اسمه: (صمويل = شَمْويل)، يتصل نسبه بهارون عليه السلام.

فطلب بنو إسرائيل من (صمويل) أن يجعل عليهم ملكاً يجتمعون عليه، ويقاتلون في سبيل الله بقيادته، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246].

فسأل شمويل ربه في ذلك، فأوحى الله إليه أن الله قد جعل عليهم ملكاً منهم اسمه (طالوت= شاؤول) من سبط بَنْيامين، وكانت قبيلة بنيامين في ذلك العهد قد أوشكت على الفناء في حرب أهلية وفتن داخلية قامت بين بني إسرائيل، فاستنكروا أن يكون طالوت ملكاً عليهم.

قال الله عزّ وجلّ: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].

فسألوا عن دليل رباني يدلهم على أن الله ملَّكه عليهم، فقال لهم صمويل:

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248].

وأعطاهم صمويل موعداً لمجيء التابوت تحمله الملائكة، فخرجوا لاستقباله فلما وجدوا التابوت قد جيء به حسب الموعد أذعنوا لملك طالوت، فكان أول ملك من ملوك بني إسرائيل.

4- جمع طالوت صفوف بني إسرائيل، وهيأهم لمحاربة عدوهم، وخرج بهم، ثم اصطفى منهم خلاصة للقتال، يقارب عددها عدد المسلمين في غزوة بدر. قالوا: وكان عددهم نحواً من (319) مقاتل، وذلك بطريقة قصها القرآن علينا في قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].

وهؤلاء القلة هم الذين اصطفاهم طالوت للقتال بعد رحلة برية شاقة سار بهم فيها، وقد اشتد فيها ظمأ القوم، وبهذه القلة التي جاوزت النهر واجه طالوت الأعداء.

5- لقي طالوت خصومه الوثنيين الفلسطينيين، وكان رئيسهم جالوت (جليات عند العبرانيين) قوياً شجاعاً فرهبه بنو إسرائيل.

وهنا دخل في صفوف بني إسرائيل المقاتلين فتى صغير من سِبط يهوذا كان يرعى الغنم لأبيه "اسمه داود"، ولم يكن في الحسبان أن يدخل مثله في المقاتلين، ولكن أباه أرسله إلى إخوته الثلاثة الذين هم مع جيش طالوت ليأتيه بأخبارهم.

قالوا: فرأى داود جالوت وهو يطلب المبارزة معتداً بقوته وباسه، والمقاتلون من بني إسرائيل قد رهبوه وخافوا من لقائه.

فسأل داود - وهو الفتى الصغير- عما يصير لقاتل هذا الرجل الجبار شديد البأس، فأُجيب بأن الملك "طالوت" يغنيه ويزوِّجه ابنته، ويجعل بيت أبيه حراً في إسرائيل.

فذهب داود إلى الملك طالوت وطلب منه الإِذن بمبارزة جالوت، فضنَّ به طالوت وحذره.

فقال له داود: إني قتلت أسداً أخذ شاة من غنم أبي، وكان معه دبّ فقتلته أيضاً، فألبسه طالوت لامَة الحرب وعدة القتال، فلم يستطع داود أن يسير بها لعدم خبرته السابقة بذلك، فخلعها وتقدم بعصاه ومقلاعه وخمسة أحجار صلبة انتخبها من الوادي.

وأقبل داود على جالوت وجرت بينهما مكالمةٌ عن بعد، وأظهر جالوت احتقار الفتى وازدراءه، والعفة عن مبارزته لصغر سنِّه، لكن داود أخذ مقلاعه -وكان ماهراً به- وزوَّده بحجرٍ من أحجاره، ورمى به فثبت الحجر في جبهة جالوت الجبار فطرحه أرضاً، ثم أقبل إليه وأخذ سيفه وفصل به رأسه، وتمت الهزيمة لجنود جالوت بإذن الله!

قال الله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].

ووفَّى طالوت لداود بالوعد، فزوجه ابنته (ميكال) وأغناه.

6- ومنذ ذلك التاريخ لمع اسم (داود) في جماهير بني إسرائيل، ثم توالت الانتصارات لبني إسرائيل على يد داود، وخاف طالوت على ملكه منه فلاحقه ولاحق أنصاره وعَزَمَ على التخلص منه بالقتل، إلاَّ أن الله سلَّم داود منه، ولم يكن من داود لطالوت إلاَّ الوفاء والطاعة وحسن العهد، وقد تهيأت له الفرصة عدة مرات أن يقتله فلم يفعل ولو شاء لانتزع منه الملك.

7- ولما لم يجد داود سبيلاً لإِصلاح نفس طالوت عليه، اعتزل عنه بعد عدة محاولات وفاء قام بها نحوه، فلم يخفف ذلك من حسده وقلقه وآلامه.

ومن ثَمّ بدأت الهزائم تلاحق طالوت في حروبه مع أعداء بني إسرائيل، حتى قُتل هو وثلاثة من بنيه، وهُزم رجاله. قالوا: وقد ندم طالوت على ما كان منه وتاب.

وكان نبيهم صمويل قد تغير على طالوت وهجره لما بدر منه نحو داود، وقد أُخبر داود أن المُلكَ صائر إليه بعد موت طالوت.

ثانياً- داود في الملك:

8- علم داود بمقتل طالوت، فصعد إلى حبرون (مدينة الخليل)، فجاء رؤساء سبط يهوذا وبايعوه بالملك.

أما بقية أسباط بني إسرائيل فقد دانوا بالطاعة لولد من أولاد طالوت اسمه: (إيشبوشت).

ثم قامت حروب بين جنود داود وجنود إيشبوشت، انتهت بمقتل ابن طالوت بعد سنتين أو ثلاث، واستتب لداود الملك العام على بني إسرائيل، وكان عمره (30) سنة.

9- اتسعت مملكة بني إسرائيل على يد داود عليه السلام، وآتاه الله مع الملك النبوة، وجعله رسولاً إلى بني إسرائيل يحكم بالتوراة، كما أنزل عليه ( الزبور) - أحد الكتب السماوية الأربعة الكبار - وآتاه الله الحكمة وفصل الخطاب.

10- قالوا: وقد دام ملكه (40) سنة ثم توفي عليه السلام، ودفن في "بيت لحم" بعد أن أوصى بالملك لابنه سليمان، فيكون عمره على هذا حين قبض عليه السلام (70) سنة. والله أعلم.

ب) وقد تعرض القرآن الكريم في عدة سور لحياة داود عليه السلام، بشكل تناول أهم النقاط البارزة في حياته، مما يتصل ببدء ظهور اسمه في بني إسرائيل، وملكه ونبوته، وبعض صفاته ونعم الله عليه، وأبرز ما جاء فيه النقاط التالية:

1- إثبات نبوته ورسالته، وأن الله أوحى إليه وأنزل عليه الزبور، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب، وعلمه مما يشاء، وأمره أن يحكم بين الناس بالحق.

2- إثبات أنه قتل جالوت في المعركة التي قامت بين بني إسرائيل وعدوهم بقيادة طالوت.

3- إثبات أن الله أنعم عليه بنعم كثيرة منها:

أ) أن الله آتاه الملك وشدّه له، وجعله خليفة في الأرض، وأعطاه قوةً في حكمه.

ب) أن الله سخر الجبال والطير يسبحن معه في العشي والإِبكار.

فقد آتاه الله صوتاً حسناً، وقدرة على الإِنشاد البديع، فهو يصدح بصوته بتسبيح الله وتحميده، ويتغنى فيه بكلام الله في الزبور في العشي والإِبكار، فترجّع الجبال معه التسبيح والتحميد، وتجتمع عليه الطير فترجع معه تسبيحاً وترنماً وغناءً.

جـ) أن الله آتاه علم منطق الطير، كما آتى ولده سليمان من بعده مثل ذلك.

د) أن الله ألان له الحديد، فهو يتصرف بَطيّه وتقطيعه ونسجه، كما يتصرف أحدنا بالأشياء اللينة بطبعها.

هـ) أن الله علَّمه صناعة دروع الحرب المنسوجة من زرد الحديد.

قالوا: وكانت هذه الصناعة غير معروفة قبل داود عليه السلام.

4- عرض قصة استفتاء فقهي وُجِّه إليه، فأفتى فيه بوجه، وكان ابنه سليمان فتىً صغيراً حاضراً مجلس الاستفتاء فأفتى بوجه آخر، وكان ما أفتى به سليمان أضمن للحق وأقرب للصواب.

وذلك ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 78-79].

نفشت: أي رعت ليلاً بلا راعٍ.

قال المفسرون: إن زرعاً دخلت فيه ليلاً غنم لغير أهله، فأكلته وأفسدته، فجاء المتحاكمون إلى داود - وعنده سليمان -، فحكم داود بالغنم لصاحب الحرث عوضاً عن حرثه الذي أتلفته الغَنم ليلاً. فقال سليمان - وهو ابن إحدى عشرة سنة -: غير هذا أرفق، فأمر بدفع الغنم إلى أهل الحرث لينتفعوا بألبانها وأولادها وأشعارها، وبدفع الحرث إلى أهل الغنم ليقوموا بإصلاحه حتى يعود إلى ما كان، ثم يترادّان.

5- عرض قصة الخصمين اللذين تسوّرا على داود، ودخلا عليه المحراب في وقت عبادته الخاصة التي يخلو بها ولا يسمح لأحد أن يدخل عليه فيها، ففزع داود منهما، لأنهما لم يستأذنا بالدخول عليه، ولم يدخلا محرابه من بابه، فقالا له:

{لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ } [ص: 22] أي: لا تَجُرْ في الحكم - {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}.

فأصغى لهما داود، فقال أحد الخصمين:

{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} - أي: ملكنيها- {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] أي: غلبني في المخاصمة بنفوذٍ أو بقوة.

وسكت الآخر سكوت إقرار.

فقال داود: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].

وانصرف المتسوران دون أن يعلِّقا بشيء على ما أفتى به داود.

فرجع داود إلى نفسه، فعرف أن الله أرسل إليه هؤلاء القوم بهذا الاستفتاء ابتلاء، وذلك لينبهه على أمر ما كان يليق به أن يصدر منه بحسب مقامه، فوبخ نفسه: { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } تائباً من ذنبه، خائفاً من ربه.

وتطبيقاً لمبدأ عصمة الرسل عليهم السلام، فإن ما فُتِنَ به داود ونبِّه عليه عن طريق الخصمين المستفتيين ينبغي أن لا يكون معصية ثابتة، وإنما هو من المباحات العامة التي لا تليق بمقام الرسل المصطفين عليهم السلام.

هذا إذا كانت الحادثة بعد النبوة، أما إذا كانت قبل النبوة فينبغي أن لا تكون من الكبائر، إذ الكبائر لا تليق بآحاد المؤمنين، فضلاً عن الذين يهيؤون للرسالة. والله أعلم.

وذكر فريق من المفسرين أنّ فتنة داود عليه السلام كانت لأنه حكم بمجرّد سماع الدعوى، دون أن يسأل البيِّنة، أو يسمع كلام المدَّعى عليه، ولذلك قال الله له بعد ذلك كما جاء: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].


بحث مفصل



المقالات ذات صله