لقاء يوسف مع والده


مكث يوسف -عليه السلام- سنواتٍ طويلة بعيداً عن والده، حيث كانت البداية عندما شعر إخوة يوسف بالغِيرة منه؛ بسبب حبّ والده يعقوب -عليه السلام- له، وتمييزه عن باقي إخوته، فدبّروا له مكيدةً، أبعدوه فيها عن والده،

حيث رموه في بئرٍ لم يستطع أن يخرج منها إلّا بمرور قافلة، عاونوه على الخروج، لكنّ أصحاب القافلة أخذوه معهم، وابتاعوه عبداً في أسواق مصر، وهناك قضى سنين طويلة يتقلّب فيها بين العيش عند العزيز، ودخول السجن، ثمّ اعتلائه عرش مصر عندما أصبح عزيزها،

وهنا كانت بداية حاجة إخوته إليه في زمن القحط الذي أصاب منطقة مصر وما حولها، فأتى إخوته يريدون المعونة من عزيز مصر، فأرجعهم إلى ديارهم بالحيلة حتى استطاع لقاء والده بعد سنواتٍ من الفراق، وورد ذكر لقاء يوسف بوالده وأهله في القرآن، حيث قال الله تعالى:

(فَلَمّا دَخَلوا عَلى يوسُفَ آوى إِلَيهِ أَبَوَيهِ وَقالَ ادخُلوا مِصرَ إِن شاءَ اللَّهُ آمِنينَ*وَرَفَعَ أَبَوَيهِ عَلَى العَرشِ وَخَرّوا لَهُ سُجَّدًا وَقالَ يا أَبَتِ هـذا تَأويلُ رُؤيايَ مِن قَبلُ قَد جَعَلَها رَبّي حَقًّا وَقَد أَحسَنَ بي إِذ أَخرَجَني مِنَ السِّجنِ وَجاءَ بِكُم مِنَ البَدوِ مِن بَعدِ أَن نَزَغَ الشَّيطانُ بَيني وَبَينَ إِخوَتي إِنَّ رَبّي لَطيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ العَليمُ الحَكيمُ).

[١][٢] كان يعقوب -عليه السلام- وجميع أهله قد تجهّزوا للقاء يوسف عليه السلام، وارتحلوا حتى وصلوا إلى حيث هو في مصر، فلمّا لقيهم يوسف احتضن والده، واختصّه بقُربه، وأظهر له عظيم البرّ، والتبجيل، والإكرام، ثمّ سجد الجميع ليوسف، حيث كان من شريعتهم أن يسجدوا للتبجيل والاحترام، ثمّ حُرّم السجود للبشر في الإسلام،

وأخبر يوسف والده أنّ هذا تأويل الرؤيا التي رآها وهو فتى، ثمّ تكلّم إلى والده بفضل الله -تعالى- عليه، حيث أخرجه من السجن، وأحسن إليه في ذلك، ثمّ جاء بأهله من البدو، بعدما دخل الشيطان في الوسوسة بينه وبين إخوته، وذذلك من لطف الله تعالى، وإحسانه عليه،

واختلف المفسّرون في السنوات التي قضاها يوسف بعيداً عن والده، فقيل إنّها ثمانين سنة، وقيل إنّها أربعين، وقال قتادة أنّها خمساً وثلاثين سنة، وقيل غير ذلك.

[٣][٤] جانب من حياة يوسف ورد ذكر قصة يوسف بشيءٍ من التفصيل في القرآن الكريم، وخصّص لذلك سورة كاملة، وهي سورة يوسُف، حيث وردت القصة لا للسرد فقط؛ بل لأخذ الدروس والعِبر منها؛ حيث إنّها زاخرةً بالأحداث المتفاوتة في الابتلاء، والرفعة، والدعوة، وغير ذلك،

وكان يوسف أحبّ أولاد يعقوب إلى قلبه، وكان يميّزه عن إخوته في المحبّة والمعاملة، حتى شعر إخوته بالغيرة منه، وهمّوا بالقضاء عليه؛ ليتسنّى لهم التقرّب من أبيهم دون أن يكون يوسف موجوداً بين أظهرهم،

فدبّروا له مكيدةً، وذهبوا به بحُجّة التنزّه واللعب، فألقوه في بئرٍ عميقةٍ لا يستطيع الخروج منها، وعادوا إلى أبيهم يبكون، حاملين قميصه ملطّخاً بدمٍ كذب، وزعموا أنّ الذئب أكل يوسف، وهم عنه غافلون.

[٢] مكث يوسف في البئر حتى مرّت قافلة متّجهة إلى مصر، فأرادوا أن يشربوا من البئر فوجدوا فيه يوسف، فأخذوه معهم، ثمّ باعوه عبداً، فاشتراه عزيز مصر؛ حيث رأى فيه نجابةً وجمالاً، فأوكله إلى زوجته؛ تعتني به وتربّيه، فمكث في قصر العزيز حتى شبّ،

ثمّ وقع حبّه في قلب امرأة العزيز؛ بسبب جماله، فراودته عن نفسه، لكنّه تعوّذ بالله من الحرام، ورفض ذلك، وفي تلك اللحظات وصل العزيز إلى حيث هما، ورأى المشهد بعينه، فاتّهم يوسف بمحاولة الاعتداء على امرأة العزيز، وقال شاهد من الناس بالنظر إلى قميص يوسف لمعرفة الحقيقة والصواب،

حيث قال الله تعالى: (إن كانَ قَميصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَت وَهُوَ مِنَ الكاذِبينَ*وَإِن كانَ قَميصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَت وَهُوَ مِنَ الصّادِقينَ)،

[٥] فكان قميصه قُدّ من الخلف، فعُرف بطلان الادّعاء على يوسف، ولكنّ الحكم كان ظالماً، فأُدخل يوسف السجن على إثر ذلك.

[٢] كان خلاص يوسف -عليه السلام- من السجن برؤيا أرسلها الله -تعالى- للملك، ولم يستطع أحد تأويلها، حتى وصلت إلى يوسف فأوّلها، ونصح القوم بأخذ التدابير في الزراعة، وبكيفيّة تخزين القمح ليبقى مدّةً أطول، فأُعجب الملك بعلمه، وفراسته، وأخرجه من السجن،

وحين ذلك طلب يوسف أن يكون أميناً لخزائن الأرض؛ لإتقانه للعمل، فأُوكلت إليه المهمة، ثمّ كانت سبباً في مجيء إخوته إليه؛ يطلبون المساعدة والمؤونة، فعرفهم، ولكنّهم لم يعرفوه، فرحّب بهم، وأكرمهم، ثمّ تعلّل بعلّةٍ؛ ليُحضروا له أخاه، فأحضروه إليه، ثمّ حضر والده وكلّ أهله بعد ذلك إلى مصر.

[٢][٦] دروس مستفادة من قصة يوسف تتعدّد العِبر والدروس المستفادة من قصّة يوسف عليه السلام، منها:

[٧] يجب على العبد أن يبتعد عن المواطن أو الأفعال التي يظنّ أنّ منقلبها سوء عليه، لذلك أرشد يعقوب ابنه يوسف ألّا يقصّ رؤياه التي رآها على إخوته؛ تجنّباً لسوءٍ يطاله جرّاء ذلك.

لا بدّ من العدل بين الأبناء؛ حتى لا يظهر بينهم الحسد والغيرة، التي قد تعمي صاحبها فتوصله إلى شرّ الأفعال والأخلاق، وهذا ما حصل مع يوسف وإخوته حين ميّز يعقوب يوسف،

واختصّه بالمودّة عليهم. بعض الشّر أهون من بعضه؛ فالإلقاء في البئر كان أهون على يوسف من القتل. الحذر والبعد عن الخلوة مع النساء الأجنبيات. ينبغي على العبد الصادق مع ربّهِ أن يلتجأ إليه،

ويحتمي به عند وجود أسباب المعصية، حيث لجأ يوسف إلى ربّه قائلاً: (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ).

[٨] يجب على الإنسان أن يعبد الله -تعالى- في الشّدّة والرّخاء على حدٍّ سواء، فيوسف كان يعلّم الناس التوحيد، ويدعوهم إلى عبادة الله وهو في السجن.




المقالات ذات صله