حريّة التّعبير على الإنترنت مهدّدة
حريّة التّعبير على الإنترنت مهدّدة.. وخصوصيّتنا أيضاً
قبل أكثر من خمسين عاماً تقريباً، في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1969، ولدت شبكة ARPANET والتي عرفت لاحقاً باسم شبكة الإنترنت. ساعدت الشبكة الأولى لنقل البيانات هذه على إرساء أسس شبكة الإنترنت الحديثة، التي أحدثت ثورة في الاتصالات العالمية.
أصبحت شبكة الإنترنت جزءاً لا يتجزأ من حياة الملايين من البشر، وانتشرت انتشاراً لم يسبق لأي أداة تقنية أخرى أن انتشرته بهذه السرعة وعلى نطاق واسع. كما أنها غيّرت بعمق حياة البشر، وأيضاً أسلوب التعبير وحرية التعبير عبر خدمات الشبكة.
كتبJoseph Carl Robnett Licklider، مهندس معلوماتي أميركي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في آب (أغسطس) 1962، أول بحث علمي نظري حول تواصل أجهزة الكمبيوتر بعضها مع بعض من خلال شبكة متصلة.
وتعتبر هذه الوثيقة الإطار النظري الذي قدّم رؤية لشبكة عالمية مترابطة مع نقاط وصول متعددة، بحيث يمكن لكل شخص على الشبكة الوصول إلى كمية لا حصر لها من البيانات والتطبيقات.
بعد ذلك في ثمانينات القرن الماضي، كان تيم بيرنرز لي، المهندس الشاب في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية CERN، بحاجة لتصنيف واسترجاع البيانات والملفات المتفرقة حول أنظمة التحكم المستخدمة، ولتطوير أنظمة التحكم بمسرع الجزئيات.
بالإضافة لحاجته هذه، طُلب منه حلّ مشكلة تبادل المعلومات والبيانات بين العلماء في أنحاء العالم، الذين أتوا للعمل في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، وواجهتهم صعوبات كبيرة في بلدانهم مع أجهزة الكمبيوتر التي تعمل مع أنظمة معقدة ومختلفة من جهاز إلى آخر لتبادل البيانات. وكان على العلماء أن يتعلموا برامج كل جهاز كمبيوتر لاسترداد بعض المعلومات.
ولادة الويب الشبكة العالمية
في 13 من آذار (مارس) عام 1989 وضع تيم بيرنرز لي أسس"الويب" أو الشبكة العالمية World Wide Web، التي أخرجت الإنترنت من الحصرية الأكاديمية والعسكرية في تبادل المعلومات. وهنا يجب التفريق بين "الويب" و "الإنترنت"، الإنترنت هي" شبكة ARPANET لربط الجامعات ومؤسسات الأبحاث بعضها ببعض عن طريق أجهزة الكمبيوتر وهي النواة لما سيصبح الإنترنت و"الويب" هي خدمة من خدمات الإنترنت.
طوَّر لي برنامجاً صغيراً يحمل اسم Enquire لإتاحة التجول بين الملفات المحفوظة بين أنظمة مختلفة عن طريق استخدام الروابط الفائقة HyperText
في أيار (مايو) 1990 تم اعتماد تسمية World Wide Web لمشروع تيم بيرنرز لي، وبدأ فريق من الباحثين مع بيرنرز لي ومساعده روبرت كاييو العمل على تطوير التقنيات الأساسية لمواقع الإنترنت أي: عناوين الويب، ميثاق نقل النصوص التشعبية لنقل البيانات على الشبكة، لغة ترميز النصوص التشعبية لإنشاء صفحات المواقع ولغة ترميز النصوص التشعبية لإنشاء صفحات المواقع.
في 25 كانون الأول (ديسمبر) 1990 وُلدت ما ستعرف بالشبكة العالمية الـ World Wide Web مع أول موقع إنترنت Info.cern.ch، أول موقع إنترنت وأول خادم إنترنت في جهاز كمبيوتر وخادم من نوع NeXT. ونعرف اليوم ما آلت إليه شبكة الإنترنت، التي دفعت إلى ما نسميه بالتحول الرقمي.
الطابع الديموقراطي لشبكة الإنترنت
لقد غيّر إضفاء الطابع الديموقراطي على الإنترنت استخداماتها باستمرار وبسرعة كبيرة على مدى السنوات الثلاثين الماضية. وأثّر في قطاعات بأكملها، ما أجبر المهنيين على إعادة التفكير في نماذج أعمالهم. واليوم مع جائحة كورونا المستجد والحجر الصحي، كانت التكنولوجيا والاتصال بخدمات الإنترنت خشبة الخلاص لكثير من الشركات والمؤسسات وأيضاً المطاعم والمحال التجارية الصغيرة.
مع بداية الويب، تم إنشاء المجتمعات على الانترنت، وألغيت الحدود بين الدول والمسافات بين القارات. فشهدنا ولادة مواقع مجتمعية كــMyPlace، وموقع الدردشة MSN وتطبيق الدردشة الأشهر ICQ، وبرز أول موطِّن مجاني للمواقع Geocities.
شهد الويب بروز خدمات غرف المناقشة Forum مع نظام Usenet، هي عبارة عن نظام مناقشة موزع عمومي وغير مركزي على الإنترنت. مع ازدهار حرية التعبير، لم تعد المعلومات أفقية من أعلى هرم السلطة لتصل المتلقي، فانعكس هرم نقل المعلومات التقليدي التي غيّرت مفهوم التواصل والسيطرة على المعلومات.
ظهور الرقابة وتحولات تبادل المعلومات
لم يمضِ عام على نشأة الويب، حتى بدأت السيطرة على المعلومات تتحول تدريجياً؛ بدأت المؤسسات الحكومية الكبرى أو وسائل الإعلام التقليدية تسيطر سيطرة كبيرة على المعلومات؛ وظهرت الرقابة على الإنترنت لأول مرة في عام 1996 من قبل الحكومة الأميركية، من خلال قانون Communications Decency Act- قانون آداب الاتصالات،
وفي وقت لاحق في عام 1998 صدر قانون Digital Millennium Copyright Act. تبعه في أوروبا عام 2001 توجيه مماثل للحفاظ على حق المؤلف. كانت هذه القوانين موضع نقد لاذع بسبب مصطلحاتها الغامضة والمضللة؛ علماً أن خلفية هذه القوانين كانت تعتبر حسنة النية.
ما دفع مؤسسة الحدود الإلكترونية Electronic Frontier Foundation وهي منظمة دولية غير هادفة للربح معنية بالحقوق الرقمية، تأسست في الولايات المتحدة في 6 تموز (يوليو) 1990، لاعتبار "قانون حرية التعبير يعرقل حرية التعبير، ويعرقل البحث العلمي، ويعيق المنافسة والابتكار".
مع مرور الوقت، أصبحت الرقابة على الإنترنت أكثر حضوراً وتعقيداً. واليوم، تقوم الحكومات في جميع أنحاء العالم بوضع حدود رقمية، وتقييد الوصول إلى المحتوى، وعرقلة حرية التعبير عرقلةً حقيقية.
الويب تم "خطفه من قبل محتالين"
كان الوصول للشبكة عندما ولدت شبكة الويب في عام 1990 قليلاً، وبعدها نما استخدام الإنترنت نمواً كبيراً. غير أن 40% من سكان العالم ليس لديهم وصول لشبكة الإنترنت، ما يشكل ساحة استثمار ومنافسة تكنولوجية بين شركات السيليكون فالي ومجموعة الـ GAFAM، لابتكار تقنيات تتيح الوصول إلى شبكة الإنترنت من المدن إلى المناطق النائية، باستخدام الأقمار الاصطناعية كمجموعة Starlink،
كوكبة من الأقمار الاصطناعية من شركةSpaceX التابعة لإلون ماسك، التي تقترح خدمة الاتصال بالإنترنت؛ المشروع المنافس هو OneWeb من شركة Airbus الأوروبية. هذا بالإضافة إلى مشروع البالونات الستراتوسفيرية من شركة ألفابيت/غوغل، لتسهيل الاتصالات، وخاصة في أجزاء من القارة الأفريقية.
لكن هل خرج "الويب" بعد أكثر من ثلاثين عاماً على ولادته، عن الأهداف التي أرادها مؤسس الشبكة العالمية تيم برنرز لي؟ للأسف الإجابة هي نعم. يعتبر تيم برنرز لي أن اختراعه قد تم "خطفه من قبل محتالين". تحول "الويب" منصة حيث تنتشر الأخبار المضلِّلة والكراهية كالفيروس. وحيث يتخلى المستخدمون عن حياتهم الخاصة لمن يدفع الثمن الأفضل، وغالباً مجاناً في مقابل خدمة من دون هدف. وأيضاً أصبح "الويب" منصة لمن يرغب في كسب المال بسرعة.
نرى اليوم ما آلت إليه الشبكة العالمية، فشركات الإنترنت العملاقة لم تعد تكتفي بجمع البيانات؛ عمالقة الصناعة الرقمية هم اليوم أكثر قوة من الدول والحكومات. وبات من الصعب اليوم الحدّ من قدراتهم ومن قوتهم. المسألة ليست فقط مسألة فرض ضرائب ومنافسة خاصة بمجموعة الـ GAFAM، فهم أيضاً فاعلون كثيراً في الميدان السياسي من خلال تقنيات التلاعب بتصرفات المستخدمين ومع الذكاء الاصطناعي.
مستقبل الإنترنت من خلال الخصوصية والأمان
يعتبر تيم بيرنرز لي أن إنقاذ الإنترنت هو مسؤولية أخلاقية جماعية، وأن النظام الأوروبي العام لحماية البيانات RGPD مفيد، وشدّد هنا على أن مستقبلَ أمنِ خصوصيةِ الإنترنت يجب ألا يكون فقط من شأن الحكومات والشركات؛ بل من الضروري أن يكون في أيدي كل فرد لاتخاذ الإجراءات للحفاظ على الخصوصية، والمطالبة بالاحتياطات اللازمة لحماية المعلومات والبيانات الشخصية لمستخدمي الإنترنت.
تشمل أساليب الحماية مراجعة كل إعدادات الخصوصية للأجهزة المستخدمة، وأيضاً إيقاف تشغيل الميكروفونات وكاميرات التطبيقات والأجهزة عندما لا تكون قيد الاستخدام. ومن المهم أيضاً إعلام وتوعية من هم أقل مهارة في التعاطي مع التكنولوجيا.
ويقترح على شركات الإنترنت والتكنولوجيا تصميم منصاتها وأدواتها مع حلول لحماية خصوصية المستخدمين وأمنهم Privacy ByDesign.
هل يمكن إصلاح ما أفسده المال؟
ما زال تيم بيرنرز لي متفائلاً بشأن المستقبل. فهو يعتبر أنه "بالنظر إلى كل التغيرات التي طرأت على شبكه الإنترنت على مدى السنوات الثلاثين الماضية، فإننا سنكون انهزاميين وغير مبدعين إن اعتبرنا أن الشبكة العالمية التي نعرفها اليوم لا يمكن تحسينها في السنوات الثلاثين المقبلة"، ويدعو المواطنين والحكومات والشركات إلى التزام العقد الإلكتروني الذي وضعته مؤسسة word wide web foundation والذي قُدِّم في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 في لشبونه.
يعمل تيم برنرز لي مع مجموعة من المطورين والمهندسين على مشروع لحل مشكلة الويب من خلال منصة Solid - "social linked data"، بالتعاون مع باحثين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. الهدف منه لامركزية الإنترنت بحيث لا تتحكم بها المؤسسات بل المستخدمون فقط. وبالإضافة إلى ذلك، المشروع مفتوح المصدر، ما يعني أنه من الممكن لأي شخص أن يقوم بالتعديل عليه وقراءة الشيفرة البرمجية "الكود" الخاصة بالمشروع.
كما أن مشروع Solid يطمح للحد من القدرة الكبيرة لشركات الإنترنت كـغوغل، فيسبوك، وأمازون، في التحكم في بيانات المستخدمين. بحسب تيم بيرنرز لي، الهدف هو إعطاء الأشخاص خصوصية وتحكماً كاملاً في البيانات الخاصة بهم، وإفادة مستخدمي الإنترنت وجعلهم المتحكمين في بياناتهم. كذلك سيكون لديهم الحرية أن يختاروا كيف يتم الربح من هذه البيانات. ونحن نعرف اليوم كيف تستغل هذه الشركات العملاقة بيانات المستخدمين لتقديم خدمات الإعلانات للمعلنين عبر المنصات المختلفة.
.