أردوجان .. ودروس بليغة للعلمانيين !
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي خطابه في دار الأوبرا المصرية أمام حشد من الجمهور المصري معظمهم من السياسيين، ورد في خطاب "أردوجان" مواقف وعبارات ودلالات ظننت بعدها أن المعسكر العلماني في مصر سوف يطالب بترحيله فورًا من مصر هو والوفد التجاري الذي معه!
ومن هذه المواقف:
1- افتتاحه خطابه بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" وإلقائه تحية الإسلام على الحاضرين، وهو أمر فعله "عصام شرف" ذات مرة، فدقت طبول الحرب في الآلة الإعلامية العلمانية، وتنادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور.
2- عندما أراد "أردوجان" أن يثني على شباب الثورة المصرية أشاد بذكر "محمد الفاتح" العثماني أبرز شاب ساهم في بناء الدولة العثمانية، ونحن نعلم مدى انزعاج العلمانيين من ذكر الخلافة عمومًا والخلافة العثمانية خصوصًا، والتي يراها معظمهم أنها كانت احتلالاً لمصر لم يقاومه الشعب؛ لأنه -حسب زعمهم كالعادة- ساذج مغرر به باسم الدين.
3- ذكر "أردوجان" أن مصر في خاطره هي قلب العالم الإسلامي، وأنها في وجدانه هي البلد التي قرئ فيها القرآن، وهذا عند القوم "خلط بين الدين والسياسية" كما يحلو لهم أن يعبروا.
4- ذكر الرجل "الموت" في كلامه عدة مرات، واستشهد بقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، وكرر أن النداء الذي وجهه إلى رئيسنا السابق، والذي ما زال يوجهه إلى كل رؤساء العالم أن نهايتهم هو قبر طوله متران! وهي لغة يتشنج القوم عند سماعها، ويسميها بعضهم بخرافة "الميتافيزيقيا"، ويتهم بعضهم الحركة الإسلامية أنها لا تملك إلا "خطاب التخويف" لأجل الكلام على هذه الأمور التي تزعجهم.. تمامًا كما أزعجت الرئيس السابق كما أشار "أردوجان" في حديثه أنه جاءه رد فعل "رسمي" يستنكر ذكر الموت عندما وجه نصيحة للنظام السابق بالاستجابة لمطالب شعبه! وكان رده عليهم: "لماذا تنزعجون؟ ألا تموتون؟!".
ونحن نقول: إن مما ساهم في كراهية ذكر رئيسنا المخلوع للموت "حظيرة وزير الثقافة السابق" التي ملأت الدنيا رعبًا من أن يذكر أحد الموت.
5- طالب "أردوجان" المصريين بالمضي قدمًا في أمر الانتخابات، وطالب بعدم الاستجابة للمحاولات "الخارجية" لتأجيلها. وهذه بالذات ظننت أن كتائب "الدستور أولاً" أو تنظيم "الخائفين من صندوق الانتخابات" سوف يشن عليه حملة إعلامية شرسة لا تقل عن حملاتهم لتشويه التيار الإسلامي في مصر.
6- جعل "أردوجان" رفع الحصار عن غزة أحد أهم أولويات السياسة الخارجية التركية، في الوقت الذي تنعي فيه كثير من الأقلام العلمانية على الإسلاميين ما يسمونه بالاهتمام الزائد عن الحد بالقضية الفلسطينيَّة.
7- طالب "أردوجان" مصر وتركيا بصفتهما من ملاك "البحر الأبيض المتوسط" أن تعملا على تحريره تحريرًا كاملاً، وأظن أن هذه الرسالة كانت أقوى رسالة وجهها في خطابه.
كل هذه المواقف التي يصفها العلمانيون -في كثير من الأحيان- أنها مواقف أصولية متشددة، والتي لا يقبلون من الإسلاميين في مصر ولو موقفًا واحدًا منها؛ قَبِله الإعلام العلماني بل وتجاوز عن الهتافات الحماسية المتجاوزة التي طالبت أردوجان أن يوحِّدنا وأن يقودنا... إلى آخره.
فما هو السبب في هذا الموقف العجيب ؟
هل هو "كرم استقبال" أم "نبل سياسي" مفاجئ أم أن الرجل أبهرهم فأسكتهم حيث ضرب المثال للسياسي البارع الذي يأخذ زمام المبادرة، والذي يعرف خريطة المنطقة، ويعرف كيف يبالغ في بناء مجد بلاده دون أن يحطَّ من الدول الأخرى شيئًا، يعرف كيف ينطق "مصر وتركيا يد واحدة" بالعربية، ويعرف كيف ينطق "مصر أم الدنيا" بالعربية، ويعرف أثر هذه الألفاظ على عاطفة الجمهور المصري؟!
يعرف أن الاقتصاد اليوم هو قاطرة السياسة، ويعرف أن اقتصاد السوق الحر لا يعني ترك اقتصاد البلاد لشطارة "الشطار" (التي قد تعني هنا معناها اللغوي الأصلي)، وإنما يقود رجال أعماله ليكون هو الذي يفتح لهم الأسواق التي تخدم مصالح بلاده العليا.
ومع هذا فلا أظن أن هذا هو السبب.
إن السبب الواضح والمعلن هو أن هؤلاء القوم قبلوا -على مضض- الدروس التي لقنها لهم "أردوجان" واحدًا تلو الآخر؛ لأنهم يريدون من الصحوة الإسلامية أن تقبل هي الأخرى بالدرس الذي أريد لأردوجان أن يلقنه لنا معشر الإسلاميين، وهو أنه من الممكن أن يوجد حاكم مسلم لدولة علمانية.
وقد أعلنت الحركة الإسلامية بكل فصائلها رفضها لهذا الدرس؛ لأننا لسنا كالعلمانيين بلا ضابط ولا رابط، بل لنا طريق نسير عليه كُتب على بابه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [يوسف: 40]، وكُتب أيضًا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وكُتب أيضًا: "كل يؤخذ مِن قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ونزيدهم من الشعر بيتًا؛ أن الحركة الإسلامية في مصر حركة رائدة لا سيما في مجال المواجهات مع العلمانية، وهي في مقام التعليم لأخواتها في العالم الإسلامي لا في مقام التعلم.
ثم إن أردوجان فيما يتعلق بتركيا لم يزد على وصف الواقع وهو أنه رئيس وزراء مسلم (وإن شئت قلت إسلامي) لبلد علماني، هذه العلمانية هي التي قضت محاكمها بسجنه وحرمانه من ممارسة الحياة السياسية يوم أن اقتبس أبياتًا يقول فيها: مساجدنا ثكناتنا.. قبابنا خوذاتنا.. مآذننا حرابنا.. المصلون جيشنا.. يحمون ديننا".
وتولي الوزارة أو عضوية البرلمان في ظل دستور علماني مسألة خلافية بين الصحوة الإسلامية، يرى البعض حرمتها بينما يرى البعض الآخر جوازها، ومنهم الإسلاميون في تركيا.
ثم إن هؤلاء الذين يرون جوازها يختلفون في المدى الذي يمكن قبوله من الذوبان في العلمانية، و"أردوجان" يمثل الرأي الأكثر ذوبانًا في العلمانية، مخالفًا بذلك أستاذه "أربكان"، وذلك بعد تدخل "العسكر" عدة مرات لإسقاط حكومة "أربكان" المنتخبة، وبعد أن أضير "أردوجان" نفسه بسبب أبيات من الشعر تقدم ذكرها.
وقاد أردوجان حملة ترويض للعلمانية التركية من خانة العلمانية التي يسمونها "ضد الدين"، والتي ترى في الدين منافسًا حقيقيًّا لها لا ينبغي له أن يتواجد ولو في المساجد أو في كتاتيب تحفيظ القرآن، والتي لا ترى من الحرية إلا حرية العري، بينما تمنع ارتداء الحجاب (بعض علمانيّ بلادنا أقرب إلى ذلك لا سيما في قضية الحجاب).
حاول أردوجان أن يجعل الحجاب خيار علماني مقبول مثله مثل ملابس البحر التي لا تكاد تستر شيئًا، وقد نجح في هذا.
حاول أردوجان أن يوقف حالة التربص من الدولة بالمساجد، ودور تحفيظ القرآن.
لقد نقل أردوجان تركيا من خانة العلمانية "المضادة للدين" إلى خانة ما يسمونه هم العلمانية "اللادينية"، والتي تسمح للدين بالوجود ولكن مع حبسه داخل دور العبادة.
ولا ينبغي في هذا المقام أن نغتر بوصف هذه بالمعتدلة وتلك بالمتطرفة، أو بوصف هذه باللادينية والأخرى بأنها ضد الدين، بل ينبغي إدراك أنه بالنسبة للإسلام فكلاهما "ضد الدين"؛ لأن الدين يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
وما أشبه حال هاتين المدرستين مع الدين بحال إخوة يوسف معه، إذ همَّ فريق بقتله، بينما رأى الآخرون إلقاءه في غياهب الجب، فهل بذلك صار هؤلاء هم المعتدلون المنصفون الذين يجعلون مثالاً يحتذى؟!
ولو أننا تجارينا مع هذا المثال فلو أن عصبة من الأشرار أراد فريق منهم أن يقتل غلامًا حليمًا، ووافقهم الآخرون على التخلص منه، ولكن طالبوا بأن تكون الطريقة أكثر شفقة، وكان بينهم رجل صالح أراد أن ينهاهم عن المنكر، ولكن وجد أنهم أغلقوا آذانهم وقلوبهم دونه، فما الواجب عليه؟ الواجب عليه أن يفعل كما فعل "مؤمن آل ياسين"، ويبرأ إلى الله من الظلم، ولا يضره بعد ذلك قبلوا نصحه أم لا.
ثم إن رأى أن ينضم إلى الفريق الأقل فسادًا المنادين بأن يكون التخلص من الغلام بطريق غير القتل، فعاونهم على ذلك، فهل يليق به أن يأمر كل من وجد غلامًا حليمًا أن يُلقي به في غياهب الجب اقتداء بفعله؟!
إننا إن قبلنا منه أن يشارك في إلقاء الغلام كنوع من الاجتهاد (وهو ما لا نوافق عليه أصلاً)، فلا يمكن لعاقل أن يقبل تعميم هذه الدعوة.
ومن ثَمَّ كان الخطأ الفاحش من أردوجان أن يدعو بلدًا كمصر إلى أن يدشنوا دستورًا علمانيًّا انطلاقًا من تجربته هو التي خضع فيها لدستور علماني قائم، بينما نحن ما زلنا في مرحلة كتابة الدستور بعد، ودستورنا السابق كان في آخر صوره أقرب إلى الإسلام منه إلى العلمانية، وإن كانت معظم القوانين أقرت في مرحلة كان الدستور فيها يبيح سنّ ما يخالف الشريعة.
ثم إن درجة فهم الناس للدين في مصر ووجود الأزهر والتيارات الإسلامية تختلف تمامًا عن حال تركيا.
إن أردوجان قد ذاب تمامًا في نظامه السياسي بصفته رأسًا له فلا يملك -وفق المعايير الديمقراطية- إلا أن يثني على نظامه، وأن ينصح به الدول الأخرى، وهي نصيحة مجروحة، لأنك لو سألت رأس النظام السياسي في أي بلد لنصحك بنظام بلده.
وهو على العموم درس للدكتور "على السلمي" و"يحيى الجمل" و"منير فخري عبد النور" ونحوهم قبل أن يكون درسًا لنا، فما بالنا نراهم يتولون وظائف تنفيذية وفق دستور لا ينص على "مدنية الدولة" رغم أنهم يرون أن هذا نوع من الرجعية والتخلف؟!
إن "أردوجان" أشبه بمن بُترت قدمه فركب قدمًا صناعية، ومن فرط فرحه بها طالب الأصحاء ببتر أقدامهم دون أن يضمن لهم حتى تلك الأقدام الصناعية!
إن المريض الذي تبلغ حرارته 40 درجة مئوية قابلة للزيادة يدقون له نواقيس الخطر، وينقلونه إلى غرف العناية المركزة، فإذا بدأ في العلاج فصارت حرارته آخذة في النقص ابتهج له الأحباب والأطباء، لكن لا يعني هذا أبدًا أن نعتبر أن تلك الحالة التي ما زالت مَرَضية وخطيرة هي الحالة المثلى التي يجب أن يسعى إليها الأصحاء.
وأما ما حققه أردوجان على صعيد الإصلاح الاقتصادي والمكانة الدولية فهو دليل على أن التربية الإيمانية للقادة قبل الشعوب تصنع قائدًا يدرك أن {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، فتحرص على محاربة الظلم لا سيما نهب المال العام وتؤمن أن "كل راعٍ مسئول عن رعيته"؛ فتجتهد في أداء رسالتها.
فهذا حال حاكم مسلم (يضع إسلامه نصب عينيه) لدولة علمانية، فكيف الحال لو صار عندنا رئيس (يضع إسلامه نصب عينيه) لدولة غالب أهلها مسلمون (وهذا حاصل بحمد الله)، ونظامها إسلامي (وهو ما نسعى إليه بحول الله وتوفيقه)؟!
انتهت رسالة أردوجان وانتهت دروسها ورسائلها، وهذه إجابتنا على ما يخصنا فيها.
ولكن ما زال لنا لدى العلمانيين أسئلة:
1- ماذا لو نصح أردوجان نفسه بالشريعة الإسلامية، وبالله عليكم أجيبونا بصدق: هل كنتم ستردون فقط أنكم لم تقبلوا النصيحة، أم كنتم ستتكلمون عن عودة الاحتلال التركي، وعن اللباقة الدبلوماسية، وعن التدخل في الشئون الداخلية والكرامة الوطنية، وكانت ساعتها ستكون الأعلام التركية على قلوبهم أثقل مما ظنوه أعلامًا سعودية في ميدان التحرير؟!
2- بينما طالب أردوجان بدولة علمانية، إذا به يزور رأس الكنيسة ليثني الأخير على دعوته إلى الدستور العلماني الذي يفصل الدين عن السياسة، ولنا أن نتساءل: هل هذه سياسة أم دين أم ستكون الإجابة كالعادة "خصوصية التجربة المصرية"؟!
وقبلها زار أردوجان الأزهر وأثنى على وثيقته، بينما هي -وإن اختلفنا مع كثير من بنودها- تحمل عنوان "وثيقة مبادئ المرجعية الدينية للدولة المصرية الحديثة".
3- السؤال الأخير لهم: هل تعلَّموا من أردوجان شيئًا؟ أشك.
والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.